من جديد، ضرب الإرهاب المتنقل في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، بل في الشارع نفسه الذي ضربه في المرّة الأخيرة، متسبّبًا بسقوط المزيد من الشهداء الأبرياء الذين يواصلون دفع أثمانٍ لا علاقة لهم بها..

بالأمس، استُهدِفت حارة حريك من جديد بتفجير انتحاري شبيهٍ بذلك الذي سبقه مع مطلع السنة الحالية، وسقط الشهداء والجرحى من المواطنين الذين صادف وجودهم في موقع الجريمة في ساعتها. وبالأمس أيضًا، عادت نغمة التضامن والاستنكار التي سئم منها اللبنانيين، معطوفة على "المواقف" السياسية غير البريئة، والتي يرى فيها البعض "تبريرًا" للجريمة بشكلٍ أو بآخر، الجريمة التي تبنّتها "​جبهة النصرة​ في لبنان" من جديد، وبكلّ فخر.

التطور الأمني المؤسف حصل في وقتٍ كانت بورصة "التفاؤل" بولادة الحكومة في أوجها، ولو لاحت في الأفق بعض "التحفظات" و"الاعتراضات" التي تجلّت خصوصًا في موقف "التيار الوطني الحر" الذي رفض رئيسه العماد ميشال عون ما اعتبره "ضربًا للميثاقية" خصوصًا أنّه لم تتمّ استشارة تكتل "التغيير والإصلاح" بتاتًا في الاتصالات التي نشطت على أكثر من خط خلال الأيام القليلة الماضية.

الإرهاب يضرب حارة حريك..

كان كلّ شيء صبيحة الثلاثاء في لبنان يوحي بشيءٍ من التفاؤل. كان المسؤولون يكرّرون أنّ الحكومة بات مسألة ساعات، أيام بالحدّ الأقصى، وكانوا يوصلون رسالة بأنّ تأليف هذه الحكومة من شأنه أن يضع حدًا لكلّ الفوضى التي شهدها البلد في الآونة الأخيرة، وهو ما لم يُعثَر على دليلٍ مادي أو حسّي له، ولو كان جلّ أمنيات اللبنانيين.

فجأة، دوّى الصوت الذي أتقن اللبنانيون تمييزه وباتوا خبراء في تحديده. إنه صوت انفجارٍ إرهابي آخر في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، بل أنّ المفاجأة أنّه لا يبعد سوى مئتي متر عن انفجار الضاحية الأخير. هو شارع العريض في حارة حريك في قلب الاستهداف مجدّدًا.

وفي التفاصيل أنّ سيّارة رباعية الدفع نوع "كيا" رقمها 429514/ج مفخخة بكمية من المتفجّرات، قدّرت المعلومات زنتها بـ25 كلغ، انفجرت في الشارع المذكور ما أدى إلى استشهاد عدد من المواطنين وإصابة عدد آخر بجروح مختلفة، بالإضافة إلى حصول أضرار مادية جسيمة، فتدخلت قوى الجيش المنتشرة في المنطقة وفرضت طوقاً أمنياً حول البقعة المستهدفة، فيما حضرت وحدة من الشرطة العسكرية وعدد من الخبراء المختصين الذين باشروا الكشف على موقع الانفجار والأشلاء البشرية التي وجدت بالقرب من السيارة المستخدمة، وذلك تمهيداً لتحديد طبيعة الانفجار وظروف حصوله.

وفي حين أعلنت قيادة الجيش أنّ السيارة المفخخة كانت مسروقة ومعمّمة أوصافها سابقًا، ذكرت المعلومات أنّ الانتحاري فجّر نفسه أثناء قيادته للسيارة، اي انه لم يركنها الى جانب الطريق، ولم يعرف ما اذا كانت الخطة الاصلية تقتضي بأن يركن السيارة ويفجّرها ثم يتبعها هو بحزامه الناسف الذي عثر عليه ولم يكن قد انفجر.

وفيما كان السياسيون على جري العادة يسارعون للاستنكار والادانة مع توجيه الاتهامات تارة للمجموعات التكفيرية وطورًا "لمن ورّط لبنان" على حدّ تعبير بعض قيادات الرابع عشر من آذار، كانت "جبهة النصرة في لبنان" سريعة أيضًا في إعلان تبنّيها، بكلّ فخر، للجريمة الإرهابية، وذلك ردًا على ما أسمتها "مجازر حزب ايران بحق اطفال سوريا، واطفال عرسال"، كما ورد في البيان الذي أصدرته، والذي حرصت فيه على دعوة أهل السنّة في كلّ المناطق إلى "رصّ الصفوف لمواجهة حزب الشيطان"، على حدّ تعبيرها.

"التيار" غير راضٍ؟

وفي وقتٍ سيطر تفجير حارة حريك الجديد على الأجواء الداخلية خلال الساعات الماضية، لم يغب الملف الحكومي عن المشهد العام، وهو الذي وُضِع على نارٍ حامية كما تقول المعلومات المتداولة، علمًا أنّ البعض وجد في الانفجار دفعًا نحو الإسراع في المشاورات الجارية باعتبار أنّ البلاد لم تعد تحتمل المراوحة على هذا الصعيد.

ولكن، وعلى الرغم من سيطرة الموجة "التفاؤلية" على ما عداها، خصوصًا مع تحديد المسؤولين هذا الأسبوع موعدًا شبه نهائي لولادة الحكومة، بدأت تطفو على السطح بعض "التحفظات" و"الاعتراضات"، التي لم تعد خافية على أحد، بعد أن أخرجها رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون إلى العلن، وتجلى ذلك بقوله للصحافيين بعيد الاجتماع الأسبوعي لتكتله أنّ أيّ تلاعب بالقواعد والأعراف الميثاقية هو تلاعب بالصيغة والدستور والميثاق، وله أثر تدميري ميثاقي، مشددا على أنه "لا يمكن التنازل عن حسن التمثيل المسيحي، ولا التنازل عن حق كل فريق بتسمية ممثليه في الحكومة"، وقال: "لا نقبل أن نعرف أسماء وزرائنا على طريقة الزواج البيروتي التقليدي قديماً، حيث نتزوج من دون أن نعرف العروس أو نراها قبل العرس".

في غضون ذلك، أكد رئيس المجلس النيابي نبيه بري أمام زواره ان امكان ولادة الحكومة في الاسبوع الجاري لا تزال واردة شرط ان يقترن هذا الامر ويسبقه التوافق على الحقائب ليتم في ما بعد اسقاط الاسماء عليها، ومن الافضل ان يحصل هذا التوافق المطلوب، مشيراً إلى أنّ ما جرى حتى ان هو اتفاق الفريقين على صيغة 8-8-8 وان تكون الحكومة من 24 وزيرا فضلاً عن تطبيق المداورة.

واعتبر رئيس الجمهورية العماد ​ميشال سليمان​ في كلمة امام السلك القنصلي أن الإيجابية الأساسية هي قرب تأليف الحكومة، آملاً في أن "نكمل بهذه الإيجابية وتصل الأمور إلى خواتيمها في أسرع وقت". وأكد أنّ "كلّ أمر يؤذي فريقا معينا نبحث فيه، وأي غبن على فريق يمنعه رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة"، مشددا على ضرورة أن "تتم المداورة لأنها في روحية الدستور".

كلمة أخيرة..

الإرهاب يتربّص بلبنان. لم يعد الأمر مجرّد فزّاعة، ولم يعد مجرّد كلامٍ في الهواء. بات أكثر من ملموس وأكثر من محسوس، ولم يعد فيه أيّ شكوك.

صحيحٌ أنّ ضبط هذا الإرهاب قد يكون صعبًا، بل مستحيلاً في مواجهة النصف "الانتحاري" تحديدًا، ولكنّ الحدّ الأدنى يتطلب من المسؤولين التعالي فوق كلّ الحسابات الضيّقة وتقديم المصلحة اللبنانية العُليا على كلّ ما عداها.

قد لا يكون تأليف الحكومة هو نهاية المطاف، وقد لا يكون التضامن الحقيقي غير المزيّف هو المُنقذ الحقيقي على البلاد، لكنه يبقى أول الغيث، أقلّه لتحصين البلد ضدّ كلّ مخططات الفتن التي تعصف بنا من كلّ حدبٍ وصوب..