تراجع الكلام عن حكومة جامعة في وقت قصير، على ايقاع مؤتمر «جنيف 2» وارتداداته. وثمة من يتحدث عن ان حكومة الامر الواقع لم تخرج من دائرة البحث بعد

في اليومين الماضيين، انحسر الكلام عن تأليف الحكومة، وتراجع الاهتمام المحلي لمصلحة متابعة مؤتمر «جنيف 2» وما ستتمخض عنه المفاوضات غير المباشرة بين وفدي الحكومة والمعارضة السوريتين. يبدو اللبنانيون مستعجلين تلقف نتائج سريعة، كأن مؤتمر جنيف سينهي اعماله بمبادرة تاريخية تنجز حلا عجائبيا للحرب السورية. وربطا بذلك يعوّلون على ان الحكومة المزمع تأليفها، ستكون انعكاسا لحل جنيف السحري، لكنّ اللبنانيين الذين يعيشون على ايقاع التفجيرات المتجددة، منذ اندلاع اولى حروبهم قبل 38 عاما، نسوا في معظمهم ان لبنان خبر كل انواع المؤتمرات الدولية والمحلية والاقليمية، ولمّا تنته حربه بعد، وان كان اتفاق الطائف قد رسم في التسعينيات، معالم الحل الدستوري للازمة اللبنانية، فضلاً عن وقف دورة العنف حينها.

فمن مؤتمرات بيت الدين وبكفيا الى لوزان وجنيف وتونس والاتفاق الثلاثي ومن ثم اتفاق الطائف، وعشرات الاجتماعات للجامعة العربية والموفدين الدوليين، ومئات الوثائق والقرارات العربية والدولية، عاش لبنان نحو اربعة عقود، ولا تزال ازماته السياسية تتدرج من مشكلة الى اخرى، معززة بالجنوح نحو انواع جديدة من الحروب والمواجهات الامنية الداخلية.

الامر نفسه حصل مع يوغوسلافيا التي انتجت المؤتمرات والتسويات الدولية حولها، عطفاً على إنشاء المحكمة الدولية، قيام ست دول منبثقة عن الدولة المركزية. ولا يزال العراق اليوم، منذ انتهاء حربه الثانية، يعيش على وقع التقسيمات والتدخلات الاقليمية والدولية. وها هي سوريا تعيش المصير نفسه.

لذا من غير المنطقي تعليق الامال على جنيف السوري او التسوية الايرانية مع الغرب، لانتاج حل لبناني سريع من ضمنها، برغم ان لبنان بات واحدا من الملفات الموضوعة على طاولات الحوار التي تعقد اقليميا ودوليا، من ضمن رزمة واحدة مع سوريا والعراق. فسوريا تختبر اليوم اول مؤتمراتها الدولية، ومسار الازمة فيها التي بدأت قبل نحو ثلاثة اعوام، تتشعب يوميا، ولم تعد عناصرها هي نفسها. وارتدادات الازمة فيها تتطاير لتصيب الدول الخلفية لها من تركيا الى الاردن والعراق وما وراءها، على عكس ما كانت عليه حرب لبنان. وكذلك الامر فان جوهر الصراع فيها بين النظام والمعارضات المتنوعة، يختلف عما عرفه لبنان من صراعات متداخلة. وتالياً لم تعد الحلول المرسومة لها عن اندلاع الثورات العربية ملائمة، بعد كل الانعطافات والمسارات التي عرفتها. من هنا يصبح التعويل على انتاج حل سريع او ظرفي، في غير مكانه، وخصوصا في ظل المشهد الذي اطل به لقاء مونترو الاول.

فالاميركيون والروس غارقون في كثير من الملفات المشتركة، سواء بالنسبة الى ملف اوكرانيا الطارئ، او محاربة الارهاب الشيشاني الذي تتصاعد المخاوف منه على الالعاب الاولمبية الشتوية في سوتشي، والمفاوضات الفلسطينية ــــ الاسرائيلية، والاهم، متابعة تنفيذ اتفاق جنيف النووي في المدى المتوسط المعطى له اي ستة اشهر. وقد كان وزير الخارجية الاميركي جون كيري واضحاً امس في تحديد الخيارات بين التزام ايران للاتفاق وعدم التزامها، وهو كلام اول من نوعه بعد سريان الاتفاق، وغداة سحب الدعوة لها لحضور «جنيف 2».

وسط هذه المعمعة الدولية، لا يتصدر لبنان الاولوية في الاجندة الدولية، الا بما يحفظ استقراره بحده الادنى. فكل التقارير الديبلوماسية لزائري لبنان الغربيين تحصر كلامها بهذه النقطة فحسب، وبعدها بتأليف حكومة واجراء الانتخابات الرئاسية. من هنا توالت الاندفاعات اللبنانية في اتجاه تأليف الحكومة، تارة من جانب الرئيس ميشال سليمان، وتارة من حزب الله، ومن ثم من جانب الرئيس سعد الحريري. ففي الكلام السياسي ان حزب الله والحريري ـ خصوصا ـ لم يكونا ليذهبا الى هذا الحد من الترويج للحكومة لو لم تكن التسوية الاقليمية انتهت، وافضت الى الدفع في اتجاه التأليف، وتخفيف شروط الطرفين من اجل الجلوس الى طاولة واحدة، لكن تخفيف الشروط لم يخفف من حدة التصويبات، سواء التي اطلقها الحريري في اطلالته التلفزيونية، او التي عبر عنها حزب الله في بيانه امس بدعوته «شركاءنا في وطننا» الى «اعادة النظر في نهجهم وخياراتهم حتى لا تضيع على لبنان فرصة جديدة للتفاهم بين أبنائه».

هذه الفرصة التي تكاد تضيع، اظهرت جانبا من الفرملة الجديدة للحكومة، وطرحت علامات استفهام كثيرة حول تداعيات مؤتمر جنيف السوري، واخراج ايران رسميا منه، وما تلاه من كلام لوزير الخارجية الاميركي. وبرغم اهمية موقفي رئيس تكتل التغيير والاصلاح العماد ميشال عون، ورئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع، بالنسبة الى تأليف الحكومة، الا ان المناخ الاقليمي لم يُنضج بعد ظروف التأليف على نحو حاسم، يوحي بأن لبنان مقبل على نوع من الاستقرار المرحلي.

وفي موازاة التريث المغلف بألف سبب محلي من المداورة والحصص والنسب، او رفض مبدأ الحكومة من دون اعلان بعبدا، تبدو الاشارات والرسائل المبطنة، اكثر حضورا، ان لجهة التلويح بأن حكومة الامر الواقع لا تزال على قيد الحياة، او لجهة ابلاغ من يعنيهم الامر تحذيرا من مغبة السير في هذا الاتجاه.