اليوم تعلن من بكركي وثيقة سياسية في زمن تحفل فيه المكتبات السياسية بوثائق مماثلة. فهل المطلوب وثيقة جديدة للموارنة أم عمل لإعادتهم قوة فاعلة؟

اليوم، تضاف الى مكتبة بكركي الحالية وثيقة جديدة لن تسلك سبيلها الى التنفيذ، بطبيعة الحال، لأسباب كثيرة موجبة، تتعلق بالفكرة والنص ومَن خلفهما، عدا عن كونها تأتي منعزلة عن الواقع الماروني والمسيحي عموماً الذي يحتاج إنقاذه الى أعجوبة، أو على الاقل الى أعمال لا الى وثائق.

قبل الوثيقة كلام كثير يقوله أساقفة عقلاء، وعلمانيون فاعلون في الكنيسة، وما بعدها سيكون أيضاً كلام كثير عن وثيقة يفترض أن تكون على قدر المصاعب والتحديات التي يمر بها الموارنة، لا أن تصبّ في خانة تسجيل النقاط على العهد السابق.

بعد الوثيقة ـــ المرجع التي أصدرها المجمع الماروني قبل أعوام، ونالت حصتها من النقد والترحيب، أي وثيقة اليوم يمكن أن تعالج الوضع الماروني والمسيحي واللبناني بعيداً من اللغة الإنشائية؟ وهل يحتاج الموارنة الى توصيف العلل التي تجتاح الطبقة السياسية والكنسية أم يحتاجون الى دواء فعال ومعالجة جذرية تبدأ من رأس الهرم نزولاً الى كافة المستويات السياسية والكنسية والرهبانية؟

وأي كلام في الشأن الوطني والكنسي يمكن أن يقال بعدما أصدرت البطريركية المارونية وثائق عمل المجمع الذي انطلقت فكرته الأولى عام 1985 لتصبح أمراً واقعاً بين 2003 ــــ 2006، وهي جاءت نتيجة عمل دام أعواماً لعشرات المطارنة والكهنة والرهبان والراهبات والباحثين والاختصاصيين والسياسيين وكميات من الوثائق، وحملت للمرة الاولى هواجس الموارنة وأدبياتهم وتاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم، منذ أن عقد المجمع اللبناني عام 1736؟

وهذا الكلام يقود الى السؤال المتداول كنسياً وعلمانياً: كيف يمكن مجموعة مصغرة، مهما كان شأن من فيها، أن تُصدر وثيقة باسم بكركي وباسم الموارنة والأساقفة الموارنة، وهؤلاء، ما عدا المكلفين بالترويج لها، لم يناقشوها حتى ولم يعرفوا خلاصاتها النهائية إلا عبر وسائل الاعلام؟ فبحسب المعلومات، فإن مجلس المطارنة اطّلع قبل مدة على نصّ أوّليّ أثار ردّ فعل رافضاً له، ولم يلق استحسان معظم المطارنة الذين قرأوه، لأسباب موضوعية تتعلق بالافكار الواردة فيه وبالطروحات وخلفياتها وتوقيتها. كان يفترض بالنص أن يعدل ويناقش مجدداً في مجلس المطارنة من أجل إقراره، لكونه وثيقة صادرة عن بكركي وعن مجلس المطارنة. لكن ما حصل هو العكس، فقد سحب المعنيون النسخة الأولية، ولم تعد بكركي الى مناقشتها مع المطارنة الذين سيقرأونها اليوم كما معظم اللبنانيين.

الشق الثاني من النقاش الذي أثاره الاساقفة يكمن في السؤال عن الحاجة الى نصوص ووثائق، وحبر المجمع الماروني لم يجف بعد. فمنذ أن صدرت وثائق المجمع، والكنيسة المارونية تحتاج الى خطة عمل لتنفيذها، في الشأن الكنسي والسياسي والاقتصادي وغيرها من العناوين التي تتناول الشأن الوطني، رغم ملاحظات سجلت حينها عليها، ووضع ما كتب على مدى أعوام وما نوقش في الحلقات الضيقة والموسعة موضع التنفيذ. لكن المتغيرات التي لحقت ببكركي وضعت نصوص المجمع على الرف، في وقت انصرف فيه القيّمون عليها بعد عصر الرحلات الى متابعة الشؤون السياسية اليومية، لا الى وضع مقررات المجمع موضع التنفيذ، في حين أن المجمع وضع خطة عمل يفترض أن تكون خريطة طريق لنهضة الكنيسة والمجتمع الماروني بكل حيثياته، بدل مضاعفة تقهقره. فإذا كانت أعمال المجمع ووثائقه قد غيّبت، فماذا يؤمل لوثيقة «سياسية» تطل علينا اليوم بصفتها وثيقة وطنية، كما تفعل معظم الاحزاب والتيارات السياسية؟

والأهم، ماذا يمكن أن يقال في توقيت الوثيقة التي تأتي في وقت يمر فيه لبنان في أصعب مراحله، ويمر معه الموارنة باستحقاقات صعبة، بدءاً من دورهم المفقود إقليمياً ودولياً، وعلى مستوى رئاسة الجمهورية واستحقاق الفراغ الداهم، ومن ثم تأليف الحكومة، وكذلك الامر على مستوى تأثيرهم كمجموعة فاعلة في القرار السياسي اللبناني؟ فهل يراد للوثيقة أن «تطور» اليوم ما أخذ من الدول الكبرى العربية والغربية ونواب وشخصيات أشهراً لإنجازه، ودفع لبنان ثمنه دماءً كثيرة من أجل صياغة طائف للبنان ينهي الحرب ويضع أسس السلم الاهلي فيه، أم يراد للموارنة أن ينحازوا الى مجازفة خطرة تأخذهم اليها بكركي هذه المرة، من أجل الخروج بتطويرات للطائف الذي تمسكت به بكركي في مجمعها الاخير؟

وهل يمكن بكركي أن تقارب المحطات السياسية من زاوية استحداث مخارج وطرح اقتراحات علنية، وهي التي كان صوتها تاريخياً يعبّر عن المبادئ العامة؟ فمن من الموارنة لا يقول إنه يجب إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها؟ ومن الذي لا يطالب بحكومة يتمثل فيها الموارنة والمسيحيون تمثيلاً عادلاً؟ ومن الذي لا يطالب بقانون انتخابي يؤمن صحة التمثيل لكافة اللبنانيين؟ ومن من الموارنة يريد أن يفرض عليه الرئيس المكلف للحكومة، تمام سلام، أو تيار المستقبل أو حزب الله وزراءه أو حتى نوابه؟

لكن هل يحتاج هذا الكلام الى وثيقة تاريخية؟ وهل هذه التوصيفات تنقذ الموارنة اليوم، وتعيد الى قيادتهم والى بكركي دورها المفقود، ولا تزال صدمة إدخال بكركي المسيحيين في نفق القانون الارثوذكسي حديثة العهد؟ وهل ثمة عاقل يعتقد أنه بمجرد أن تطالب بكركي الحالية، بكل ما خلقت حولها من التباسات، بالاستحقاق الرئاسي ستجرى الانتخابات وتؤلف الحكومة مراعاة لخاطر الموارنة، أم أن ما يحتاج إليه الموارنة كنيسة قوية، وخطة عمل ومشروع ريادي يعيدهم بقوة الى الساحة الوطنية؟

الأكيد أن ثمة أزمة مارونية كبيرة. لكن الأكيد أيضاً أن سبب الأزمة بات معروفاً... ولا يحتاج الى وثيقة لقوله.