لا شك في أن الخطوة الأخيرة التي اتخذتها السعودية والإمارات والبحرين بسحب سفرائها من الدوحة أظهرت وبشكل جلي التخبط الكبير الذي تعيشه الدبلوماسية القطرية في الأشهر القليلة الماضية وتحديداً منذ صيف عام 2013.

فحتى الآن وبعد قرابة أل 9 أشهر من استلامه الحكم لم يستطع الشيخ تميم بن حمد آل ثاني من اعتماد سياسة دبلوماسية واضحة وناجحة لهذه الإمارة الصغيرة "شاغلت الدنيا ومالئة الناس" في السنوات الماضية.

تاريخياً ليس هناك سوى ثلاثة نماذج أساسية يمكن أن يعتمدها الأمير الشاب في هذا الإطار. النموذج الأول يتمثل ب"دبلوماسية الظل" التي اعتمدها جده الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني والمعتمدة شبه رسمياً في قطر منذ نشأتها في القرن ال18 عشر، والقائمة أساساً على عدم تخطي حدود الدولة وتحاشي إغضاب الدول المجاورة خاصة السعودية و إيران.

أما النموذج الثاني، فيتمثل بالسياسة الأولى لأبيه الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني 1996 و2011، وهي "دبلوماسية الوساطة أو الوسيط"، هذه السياسة الناجحة جداً عملياً والتي سمحت لقطر أن تتبوأ أعلى المواقع الدبلوماسية والسياسية. إضافة إلى وضعها تحت أضواء الشهرة العالمية، وأن تبرز بوضوح على الخارطة الإقليمية والدولية في فترة زمنية قصيرة، وذلك بفضل صداقاتها مع معظم الدول تقريباحتى إسرائيل، وتبنيها لعمليات وساطة بين المتصارعين في مختلف أنحاء العالممرورا بلبنان، وفلسطين، وأفغانستان، السودان، ليبيا، واليمن، الخ...

النموذج الثالث والأخير هو السياسية الثانية التي اعتمدها أبوه في السنتين الأخيرتين من حكمه والمتمثلة في "دبلوماسية اللاعب القوي"، وهي دبلوماسية الدول الكبرى والقوى الإقليمية التي غالباً ما تكون طرفاً في الأحداث من خلال دعمها لفريق دون أخر. وهذا بالضبط ما فعلته الدوحة منذ بداية الثورات العربية عبر دعمها لبعض القوى المعارضة سياسياً، مادياً، عسكرياً، وإعلامياً، ومساهمتها بشكل كبير في وصول التيار الإسلامي المتمثل بجماعة الإخوان المسلمين خصوصاً للحكم في بعض الدول العربية وخاصة في تونس و مصر. وعلى الرغم من نجاح هذه السياسة في بادئ الأمر، غير أنها سقطت وبشكل مريع مع سقوط النظام الإسلامي السياسي في دول الثورات العربية وخاصة في مصر، ليبدأ مع هذا السقوط مسلسل التخبط الصريح في الدبلوماسية القطرية.

إذاً ومن دون أدنى شك فإن ما تعيشه قطر اليوم من شبه عزلة خليجية وهذا القرار بسحب سفراء السعودية والإمارات والبحرين منها، ما هو إلا نتيجة استمرار انتهاج الدوحة ل"دبلوماسية اللاعب القوي". فهذه السياسة أدت إلى تراكم العديد من المشاكل الدبلوماسية لهذه الدولة الطموحة التي ترفض حتى الساعة وبشكل قاطع خلع سترة "دبلوماسية اللاعب القوي" وإصرارها على لعب دور في الساحة الإقليمية من خلال دعمها لبعض الجماعات في المنطقة. باختصار هذا ما أدى إلى تضارب مصالح قطر مع جيرانها الخليجيين وبالتالي إطلاق العنان للانفجار الدبلوماسي مع هذه الدول.

ومن هنا يمكن القول إن هناك بالطبع خيارات كثيرة أمام أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني للتعامل مع هذه الأزمة الأخيرة، لكن وعند التفكير في هذه الخيارات الممكنة على الشيخ تميم أن يضع نصب عينه أمرين رئيسيين سيساعدانه ويسهلان عليه طريقه.

بداية هل الظروف الحالية هي ذاتها التي دفعت أبيه إلى اعتماد "دبلوماسية اللاعب القوي"؟ الجواب سريع وبسيط وهو بالطبع "لا". فعندما نجحت الدوحة في تسيد الساحة العربية من بداية عام 2011 حتى بداية عام 2013 الظروف كانت مختلفة كلياً عما هي اليوم. فالقوى العربية الكبرى كانت غائبة عن الساحة الدبلوماسية. فمثلاً مصر كانت تعيش تبعات الثورة في المرحلة الأولى، ومن ثم العهد الأخواني في المرحلة الثانية الذي سلم لقطر، أما السعودية فكانت غائبة في سبات عميقة بسبب دبلوماسيتها الهرمة، والعراق غارق في مشاكله الداخلية، وسوريا في حربها الأهلية. أما اليوم فكل تلك المعطيات تغيرت، فقد فاقت المملكة العربية السعودية من سباتها وعادت لتمارس دورها الطبيعي ومصر أيضاً على الطريق وتعمل جاهدة على استعادة موقعها الدبلوماسي الذي فقدته منذ 2011. أضف إلى ذلك طبعاً الدعم والغطاء الغربيين اللذين كانت تحظى بهما الدوحة قبل منتصف 2013 وشبه المفقودين حالياً.

ثانياً، ما هي مصلحة قطر والقطريين حالياً؟ هل هي سياسة المحاور والأدوار الإقليمية المرفوضة من شريحة واسعة في العالم العربي أم سياسة اليد الممدودة للجميع؟ خاصة وإن قطر تواجه حالياً تحديات رئيسية داخلية كبيرة، لعل أهمها إنجاح رؤية قطر 2030 والتي من الممكن أن تحول هذه الدولة إلى واجهة أساسية ومدينة عالمية للعيش وللعمل. أما خارجياً فلدى قطر العديد من الاستحقاقات العالمية، أهمها استضافتها لبطولة كأس العالم لكرة القدم عام 2022، وهي بحاجة لكافة الجهود لإنجاح هذا العرس العالمي، إضافة إلى كل دعم ممكن للتغلب على الهجمة الممنهجة عليها في هذا الإطار.

لذا ومن هذا المنطلق يبرز حلاً وحيداً يخرج الدوحة من هذه الأزمة ومن حالة عدم الاستقرار التي تعيشها دبلوماسيتها وتبعد عنها شبح الاصطدام المباشر مع جيرانها الخليجيين ويمكن من خلالها أن تتميز عنهم وذلك من دون أن تتمايز. وهذا الحل يكمن في عودة قطر إلى انتهاج "دبلوماسية الوساطة أو الوسيط"، فهذا الحل هو الوحيد الذي يمكن أن يخرج قطر رابحة من هذه المرحلة خاصة وأنه كان نموذجاً يقتدى به لفترة طويلة. إضافة إلى كونه المخرج الوحيد الذي يحفظ للدوحة اكبر هامش من حرية الحركة والسيادة الدبلوماسية من دون مضايقة جيرانها بشكل مباشر.

فهل تعود الدوحة وتقبل بأن تسلك طريق "دبلوماسية الوساطة أو الوسيط" للخروج من هذه الأزمة؟ أم ستصر على ذهابها بعيداً في "دبلوماسية اللاعب القوي" على الرغم من طريقها الوعرة والمشاكل التي يمكن أن تسببها؟