تثير التطورات اللبنانية الأخيرة، وما يظهر من مؤشرات دولية وإقليمية، المخاوف من أن يكون ثمن الحفاظ على الاستقرار مكلفاً، من الآن فصاعداً

مع التصاق الوضع اللبناني أكثر فأكثر بالتطورات السورية، تصبح مرحلة انتظار التسويات الاقليمية مكلفة لبنانياً. وإذا كان لبنان تمكّن، بفعل قرار دولي وشرق أوسطي، من اجتياز السنوات الثلاث من الحرب السورية، بأقل الأضرار الممكنة، فإن ما بدأ يظهر من مؤشرات دولية وإقليمية يوحي بأن ثمن الحفاظ على الاستقرار سيكون من الآن فصاعداً مرتفعاً ومكلفاً على كل الصعد. وقد بانت بعض الملامح الأولية عن هذا الاتجاه الذي لا يتفاءل سياسيون لبنانيون إزاءه ولو قليلاً.

ثمة قراءة واقعية حول السياسة الاميركية الخارجية في ظل إدارة الرئيس باراك أوباما الذي رسم في الولاية الاولى والنصف الأول من الولاية الثانية خطوطاً عريضة تناقض في حيثياتها وخطواتها العملانية سياسة سلفه جورج بوش، إذ أرسى قواعد لإدارة الازمات والحروب وليس إدارة الحلول لها، فانسحب من العراق ورسم سياسة مماثلة لأفغانستان. وفي ما يعني الشرق الاوسط، مارس الأداء نفسه بالنسبة الى إدارة الملف النووي الإيراني والكيميائي السوري والازمة السورية بكافة عناصرها.

من هنا، يرتسم السؤال المحلي على مستوى لبنان: ماذا يمكن أوباما أن يحمل في زيارته المرتقبة للسعودية من عناصر تضاف الى ما تعيشه أزمات المنطقة في ظل الإيقاع المضبوط للسياسة الخارجية الأميركية؟ وكيف يمكن أن ترتدّ الضبابية الأميركية على لبنان المقبل على استحقاقات داهمة، والذي يعيش أزمات أمنية تتفاقم حدتها مع التطورات العسكرية في سوريا؟

لا توقعات لبنانية كبيرة من زيارة أوباما وإمكان أن يكون يحمل حلولاً متكاملة. فهو يأتي الى المنطقة تحت السقف المرسوم لسياسة طويلة الأمد تدير ملفات المنطقة ولا تصوغ لها حلولاً، وما يخصنا منها مباشرة الحرب السورية التي دخلت عامها الرابع، متراجعة في سلم الاهتمامات الدولية، السياسية والاعلامية، إذ لا تبدو في الأفق، حتى الآن، مشاريع جاهزة وجدية لكيفية إيجاد صيغ لحل أزمة سوريا التي تستعد بعد أشهر قليلة لاستحقاق الرئاسي، ويخوض نظامها اليوم معركة مصيرية لتحسين وضعه العسكري، ولا سيما في بعض المناطق الاستراتيجية، مستفيداً من التريث الدولي في رسم سياسة واضحة لمستقبل سوريا، وفي التضعضع الحاصل على جبهة دعم المعارضة السورية. وكل ما يرشح من المتصلين بالإدارة الاميركية يصبّ في خانة وضع ملفات المنطقة في تسويات مرحلية لا نهائية.

بدورها، تستقبل السعودية أوباما بأداء مغاير، لا يزال تحت المعاينة الدولية، بعد أسابيع من إبعاد الأمير بندر بن سلطان وتقدم الأمير محمد بن نايف الذي رمّم علاقته مع واشنطن وأرسى خطوات على طريق مكافحة الارهاب، إن لجهة القرار السعودي بتجريم كل من يقاتل خارج السعودية، أو لجهة تصنيف منظمات «النصرة» و«داعش» و«الإخوان المسلمين» (وترافق ذلك مع التشنّج الخليجي تجاه قطر، وتدفع به السعودية لتحصين النصر الذي حققته في مصر وحمايته) و«حزب الله السعودي» على لائحة المنظمات الارهابية. ويأتي اللقاء الاميركي ـــ السعودي، أيضاً، في مرحلة تظهر فيها إشارات خجولة إلى محاولات حوارية بين السعودية وإيران التي زار رئيسها حسن روحاني مسقط، مع كل ما تحمله هذه الزيارة من دلالات عربية.

كل عناصر هذه الصورة تنعكس في لبنان الذي يعيش الوقت الضائع، إقليمياً، على فوهة بركان حقيقي. فالحوار السعودي ـــ الإيراني، ولو بعناصره الأولية ـــ من دون أن يعني ذلك أن أجندة الطرفين تغيرت في ما خص ملفات لبنان وسوريا والعراق ـــ سمح بإعلان الحكومة بين يوم وآخر بعد انتظار أكثر من عشرة أشهر، وأتاح أيضاً إصدار البيان الوزاري بشق النفس، بعد استنزاف كامل المهلة الدستورية.

لكن العبارات الأدبية واختيار الوزراء أمر، ومعالجة تداعيات التطورات السورية على الارض أمر آخر. وبحسب أوساط سياسية، فإن ما حدث في يبرود، وقبلها القصير، وما قد يحدث في مناطق استراتيجية أخرى، ومجرى الاحداث السورية على الخط الممتد من دمشق الى حمص فالساحل السوري، يشي بتطورات خطيرة، ويرسم توقعات أمنية قد تكون إحداها تأمين ممر آمن من بعلبك الى الساحل السوري، مع كل الدلالات الخطرة التي قد ترتدّ على لبنان من جراء ذلك. وأي تطور سوري نوعي في حمص، من شأنه أن يثير في لبنان مخاوف جدية من حجم الارتداد البشري عليه، ومن إشارات بقاء اللاجئين فيه الى أمد طويل. ووضع عرسال ومحيطها، وما يمكن أن يطرأ عليها من تطورات أمنية تتخوف منها الاوساط الأمنية المعنية، لن يكون محصوراً بعرسال وحدها ولا بالبقاع وحده. وجولة طرابلس الاخيرة، وهي الاخطر بالمفهوم السياسي بكل المعايير من سابقاتها، تحتّم مراجعة على مستوى رسمي عال لكيفية اجتراح حلول ناجعة، لا تشبه بشيء اجتراح صيغة البيان الوزاري. ولعل ما حصل مساء أمس في أكثر من منطقة، من تحركات على صلة بوضع عرسال، يؤكد صحة المخاوف ويدفع في اتجاه تأكيد ضرورة رفع سقف المعالجات على مستوى الحكومة والسلطة السياسية التي لا تستطيع، بعدما شكلت حكومة من قوى 8 و14 آذار، أن تبتعد عن المشهد الأمني العام، وتتخلى عن مسؤوليتها المباشرة لتضع الجيش وحده في فوهة الاستهداف السياسي والامني.

وانتظار التسوية الإقليمية التي لا تزال بعيدة وغير واضحة المعالم، أو الانصراف الى الاستعداد للاستحقاق الرئاسي، من دون الالتفات الى خطورة التطورات السورية الآنية واللاحقة، ومن دون خطة سياسية واضحة في لبنان، سيغرق البلد في متاهة أشد خطورة على أكثر من مستوى: أولاً ارتفاع حجم اللاجئين السوريين في شكل كثيف في وقت قصير، واحتمال عدم عودة هؤلاء الى المناطق التي نزحوا منها، والتي يتوقع أن ينزحوا منها تبعاً لتطور خريطة المعارك في سوريا. وثانياً المستوى الأمني لجهة معالجة وضع المناطق اللبنانية ذات الارتباط العضوي بالمشكلة السورية بقاعاً وشمالاً، بعيداً عن المزايدات الحكومية والسياسية التي بدأت تظهر داخل الحكومة وداخل التيارات والاحزاب المعنية، لأن أي تطور سوري مستجد قد يجد متنفساً له، ليس في عرسال وطرابلس فحسب، بل أيضاً في صيدا وبيروت وغيرهما. وهنا تكمن خطورة إشعال فتيل الأمن من منطقة الى أخرى، بكل ما يحمل من عناصر متفجرة تزيد من الشرخ الحاصل سياسياً وطائفياً.