لا يبدو في الأفق حتى الآن أن كلمة السرّ أتت كي يجرى الاستحقاق في موعده، في انتظار أن ينضج ترتيب العلاقة السعودية ــ الايرانية، في وقت يتلهّى فيه المرشحون الموارنة في الوقت الضائع

في الأعوام الثلاثة الاخيرة، حفلت المنطقة العربية بجملة متغيرات جذرية تحت عنوان الحراك الشعبي أو الثورات العربية، وصولاً الى الحروب والصراعات الداخلية. وفيما كانت مصر تعيش تحت وقع الثورة أولاً والانقلابات ثانياً، ويخضع العراق لشد حبال داخلي سياسي وتفجيرات أمنية متلاحقة، وينهار الوضع السوري، تقدمت السعودية الى الصف الامامي في الدول العربية في مواجهة إيران.

بدت الرياض كأنها تتزعم العالم العربي وحدها، وبدأت تحاول استعادة حضورها في الساحات العربية، كما فعلت في مصر، حيث اطمأنت أخيراً الى مستقبل القاهرة بعدما سحبت ورقة الإخوان المسلمين، وباشرت الإعداد لخلافة الرئيس محمد مرسي بانقلاب أبيض قاده الرئيس المفترض عبد الفتاح السيسي. في وقت تتلطى فيه السعودية وراء واجهة مجلس التعاون الخليجي لرسم مسار المواجهة مع أخصامها، وفي مقدمهم إيران.

يتدرج الصراع السعودي ـــ الايراني على مستويات عدة، العراق واحد منها وسوريا الساحة الاعنف، وأضيف الى جدول المواجهة الوضع الافغاني الذي عاد الى سلم الاهتمامات في ظل الانتخابات الرئاسية والانسحاب الاميركي المتوقع من أفغانستان، وحيث للدولتين محاولات للإطلالة على الوضع هناك بنظرة تختلف عن النظرة الغربية اليه.

تريد الرياض قيادة العالم العربي، وترتيب البيت السعودي الداخلي واحد من الخطوط المرسومة لإمساك الوضع العربي وفق أجندات مدروسة، بحسب ما تقتضيه أوضاع كل دولة. من هنا يدخل الوضع السوري واللبناني في صلب هذا المسار الجديد.

والسعودية حتى الآن تبدو صارمة في شأن سياستها، وإن بدفّتين مختلفتين، في مصر وتثبيت الحكم الموالي لها، والعلاقة مع قطر. أما في سوريا، فهي تحدد استراتيجية جديدة على ضوء المتغيرات الميدانية التي حصلت أخيراً والتقاطعات مع الدول الغربية المعنية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، في شأن رسم مستقبل سوريا.

يختلف الأمر في لبنان. فإذا كان الصراع السعودي ـــ الإيراني أخذ في سوريا شكلاً عسكرياً، فإن مقاربة الوضع اللبناني تكاد تكون مغايرة جذرياً. هناك اقتناع سعودي بأن ما جرى حتى الآن من ضغط سياسي وحتى أمني، لم يفض الى تغيير في ميزان القوى داخلياً، وأن لا قدرة لحلفاء السعودية في لبنان، مهما كبر حجم محاولاتهم، على تخفيف اندفاعة حزب الله في سوريا أو في لبنان. لذا تحولت النظرة الى الملف اللبناني الى مستوى آخر، أي بإرساء هدنة موقتة ترجمت كما أصبح معروفاً بتأليف الحكومة، وتدريجاً تخفيف الاحتقان الامني.

اقتناع سعودي

بتحييد لبنان عن

الصراع مع إيران على الملف السوري

لكن الهدنة لا تزال تقف عند هذا الحد بعدما ثبت أن آفاق ترتيب العلاقة السعودية ـــ الإيرانية لم تنضج بما يكفي حتى تتخطى تأليف الحكومة وتصل الى الاستحقاق الرئاسي. وتبعاً لذلك، يعرف الذين ينظرون الى الوضع الداخلي عبر النافذة الشرق أوسطية أن الوضع اللبناني بات في ثلاجة الانتظار، ومرتبطاً بآفاق المواجهة السعودية الايرانية أو الوصول الى تفاهم بينهما في الحد الأدنى، لا أكثر ولا أقل. والمعنيون بملف الانتخابات، ترشيحاً واقتراعاً، يعرفون ضمنياً أيضاً أن الانتخابات الرئاسية، التي لم تكن ولن تكون من صنع لبناني، هي اليوم أكثر من أي يوم مضى مرتبطة بالظرف الاقليمي الذي لم ينضج بعد.

حتى الآن، لا كلمة سر في الاستحقاق الرئاسي، بحسب ما يقول مطّلعون على بعض تفاصيل ما يجري من اتصالات إقليمية ودولية. ولا كلمة سر أيضاً في ما يتعلق بالمهلة الدستورية التي بات أكثر من مسؤول عن ملف الانتخابات يتعاطى معها على أنها أصبحت وراءه. ولم يعد الحديث في الاوساط السياسية يدور حول كيفية إخراج عقد الجلسات النيابية الانتخابية، بل حول كيفية إخراج سيناريو الفراغ الآتي حكماً، وتطوير الآليات من أجل ترتيب أوضاع الحكومة تمهيداً لمرحلة متوسطة الامد تسبق انتخاب الرئيس قبل الخريف المقبل. فالحكومة التي أتت بها الهدنة الاقليمية ستكون بارومتر الاستحقاق الرئاسي. فإذا سار العمل الحكومي بهدوء وبخطوات واثقة ولو بطيئة كما يجري حتى الآن، فقد ينسحب ذلك على إدارة ملف الانتخابات الرئاسية إقليمياً. أما إذا تعثر عملها وشهدنا مواجهات وشد حبال، فإن الهدنة قد تهتز تحت وطأة هذه الانتكاسة، ما يفتح الباب مجدداً أمام تفلّت أمني، وتعثّر في إدارة ملف الانتخابات لا بل أمام تشدد في إدارته.

وفيما تعمل بعض القيادات والمرجعيات على متابعة تفصيلية لما يجري على خط إيران والسعودية، والوقوف بجدية على ما خلصت إليه زيارة الرئيس الاميركي باراك أوباما للسعودية، تبدو حركة المرشحين الرئاسيين أشبه بدوران في حلقة مفرغة، في انتظار أن تأتي كلمة السر. فهم مدركون أن الزمن اليوم ليس زمن انتخابات، بل زمن الإعداد لها. لذا ينصرفون في المهلة الضائعة الى تثبيت مواقعهم في شوارعهم، وفي تياراتهم وأحزابهم، عبر شدّ العصب الداخلي، حتى تكاد تكون حملاتهم الانتخابية الداخلية أكثر فاعلية وقوة من حملتهم المعلنة أمام اللبنانيين. والمشكلة أن بعض المرشحين يتلهون عن العمل السياسي بشنّ حملات إعلامية وفبركة بعضها الآخر، وتصويب من تحت الطاولة بعضهم على بعض، وتنفيس أحقاد دفينة وشخصية تجاه البعض، وتخييط مهادنات تجاه البعض الآخر، وعقد لقاءات بعيدة عن الاعلام بين شخصيات من تيارات سياسية مختلفة لم تكن يوماً على وفاق أو حتى على تواصل، ولو شكلياً.

هناك اقتناع لدى بعض المرشحين، ولو لم يعلنوا ترشيحهم رسمياً، بأنهم أصبحوا «فخامة الرئيس» فعلاً لا قولاً، وأن ما يجري اليوم ليس سوى وضع اللمسات الأخيرة قبل الوصول الى قصر بعبدا. ويكاد يكون كلام هؤلاء مقنعاً الى الحد الذي تصبح معه أي قراءة عن المتغيرات الإقليمية وعن الفراغ الآتي مستحيلة.

على خط السعودية ـــ إيران حركة مكثفة ومشاورات لها انعكاسها المباشر على مستقبل لبنان السياسي. وعلى خط المرشحين الموارنة، وبعضهم الأبرز، حركة مناكفات محلية، وكأن ما يجري انتخابات مخاتير وليس انتخابات رئاسية.