إنّ الورقة البيضاء قد سجلت رقمـا قياسيا في الاستحقاق الانتخابي تاريخ 23/4/2014 لم يشهده اي استحقاق سابق جرى فيه انتخاب رئيس للجمهورية، فهذه ظاهرة جديدة وملفتة في الحياة السياسية في لبنان، والوحيدة من نوعها، بل هي خارجة عن المألوف لأصول التعاطي الايجابي في تطبيق القواعد الدستورية من قبل نواب الامــة، ولا اقصد بقولي هذا ان النائب ليس باستطاعته التغـيـّب او الامتناع عن التصويت او ان يصوت بورقـة بيضاء او بورقة باطلة من اجل التعبير عن موقف مبدئي او شجب او رفض، الا انه لا يمكن التصور ان عدد الاوراق البيضاء يمكن ان يصل الى 52 ورقة في جلسة انتخاب رئيس لبنان.

والاكثر غرابة، ان نواب الثامن من آذار قد خططوا للعب هذا الدور الخطر ظنا منهم ان كثرة الاوراق البيضاء تعطل الجلسة وتحول دون وصول المرشح سمير جعجع الى مركز رئاسة الجمهورية، فهذه هفوة، لان عدد النواب الحاضرين قد بلغ 124 نائبا وعدد المقترعين الفعليين ( Vote Affirmatif) هو 48 صوتا لجعجع و16 صوتا للنائب هنري حلو، اما الاوراق البيضاء وعددها 52 فلا تعتبر اقتراعا فعليا استنادا الى قاعـدة: ليس كل ناخب من النواب هو مقتـرع Tous les électeurs ne sont pas des votants ما يعني ان الورقة البيضاء ليست اقتراعا، فهي لا شيء قانونا، ولا تؤخذ بالحسبان عند فرز أصوات المقترعين الفعليين.

وبالتالي، واستنادا الى المادة 49 دستور التي تتحدث عن غالبية ثلثي المقترعين قد فسرها بعض كبار فقهاء القانون الدستوري بثلثي الاصوات المعبّرة (Suffrages exprimés) ما يعني، بحسب رأي هؤلاء، ان عدد الاصوات المعبــّرة فعليا اذا كان: 48 + 16 = 64 صوتا، فان غالبية الثلثين في الدورة الاولى تصبح 43 صوتا، ومن هنا كان ينبغي على نواب الثامن من آذار تفعيل اصواتهم او معظمها على الاقـل للحيلولة دون وصول جعجع وليس عن طريق الامتناع السلبي بـ52 ورقة بيضاء!

فهل يعمد فريق 14 آذار او جعجع الى تقديم طعن بصحة الانتخاب عند اعلان فوز اي مرشح آخر في الدورات اللاحقة؟ وماذا سيكون تفسير المجلس الدستوري لاحكام المادة 49 دستور؟ خاصة وان رئيس المجلس النيابي نبيه بري قد اعلن في آخر جلسة 23/4/2014 ان النصاب هو على الدوام 86 نائبا (الثلثان)، بينمـــا صبري حمادة قد اعتبر ان النصاب هو الاكثرية المطلقة في جلسة انتخاب سنة 1970، في حين ان المادة 49 دستور لا تتحدث قطعيا عن اي نصاب لانتخاب رئيس للجمهورية كونها مادة انتخاب وليست مادة نصاب، فضلا عن ان هذه المادة المـأخوذة والمترجمة عن الاصل الفرنسي، لا تعتبر ان انتخاب الرئيس يتمّ بأغلبية الثلثين من مجموع أعضاء المجلس النيابيDe la chambre des députés) ) بل باغلبية الثلثين من قبل المجلس النيابي (Par la chambre des députés ) للدلالة، فقط، على طبيعة نظامنا البرلماني، وليس الرئاسي بحيث ينتخب الرئيس من الشعب، وانطلاقا من فكرة ان رئيس الجمهورية (قبل الطائف) وان كانت السلطة التنفيذية مناطة به فهو ينتخب، على الرغم من ذلك، من مجلس النواب. وبالتالي، فان المسألة هي دقيقة وخطرة وكان ينبغي تفاديها والحذر من استعمال ورقة بيــضاء.

والجدير ذكره، في هذا الاطار، انه لو اقترع للجنرال ميشال عون 52 صوتا (بدلا من ورقة بيضاء) لما كان فــاز احد في الدورة الاولى من جلسة انتخاب رئيس للجمهورية بحسب مفهوم المادة 49 دستور.،علما، بان ديباجة هذه المادة تحول دون تمكين اي كان من تعطيل جلسة انتخاب الرئيس كونها تحض النائب، كلّ نائب دون استثناء احد على الحضور والاقتراع ايجابا للشخص الذي يريد والا تجري العملية الانتخابية بمعــزل عنه، ما يعني ان المنافسة الشريفة والموزونة والايجابية هي مفروضة ومفترضة بمقتضى المادة 49 دستور ما لم يجمع النواب، او بشبه اجماع، على اختيار شخص يليق به المنصب الارفع في الدولة.

وننوه بالقول، ان رئيس الجمهورية اللبنانية، طبقا لاحكام الدستور، بعد الطائف، لا يحتاج الى برنامج انتخابي او الى تذكير الشعب اللبناني بانجازات سوف يحققها بل كل ما يطلب منه، كشرط اولي واساسي، ان يكون الدستور اللبناني برنامجه وان يتمتع باهلية سياسية قادرة على توطيد ميثاقية الدولة وتفعيل وثيقة الوفاق الوطني وسائر القواعد والمبادىء الدستورية التي قامت على اساسها التركيبة اللبنانية الفــذة.