أُقفلت صناديق الإقتراع، وعاد النّاخبون أدراجهم محمّلين بآمال تغيير وإصلاح الوضع القائم في بلاد الرافدين. واقعٌ أقلّ ما يمكن وصفه بالمتردّي، سواء من الناحية الخدماتية، أو من الناحية الأمنية التي وضعت البلاد في حالة طوارئ دائمة، وفرضت تحدّياتها على الأجواء الإنتخابية.

النّاخبون يتحدّون تهديدات الجماعات المتطرفة

أكثر من إثني عشر مليون مواطنٍ عراقيٍّ توجّهوا إلى مراكز الإقتراع في مختلف محافظات العراق وفي الخارج، معلّقين آمالاً ضئيلة على أصواتهم التي أدلوا بها في أول إنتخابات تشريعية بعد إنسحاب القوات الأميركية وثالث إنتخابات بعد سقوط النظام السابق. ملايين لم تمنعهم الأوضاع الأمنية المتردية والتهديدات التي أطلقتها المجموعات المتطرفة من المشاركة في الإنتخابات، فحضروا بأعدادٍ كبيرةٍ إلى مراكز الإقتراع وسط إجراءات أمنية مشدّدة.

الطلاء البنفسجي علا إبهام حوالي 60% من أصل 20 مليون مواطن يحق لهم الإقتراع، في وقت سجّل اللون الأحمر الدموي حضوره في عدة هجمات إستهدفت مراكز للإقتراع في مناطق متفرّقة، وراح ضحيّتها العشرات.

فخلال الأسابيع الأخيرة وخصوصاً خلال فترة الحملات الإنتخابية، تدهورت الأوضاع الأمنية في العراق إثر قيام تنظيمي "القاعدة" و"داعش" بإطلاق جملة تهديدات لإستهداف الناخبين ومراكز الإقتراع، ما استدعى تكثيف الإجراءات الأمنية للتصدّي لأيّ هجوم محتمل.

ومع إقتراب العد العكسي للإنتخابات العراقية، شدّدت الحكومة العراقية من رقابتها الأمنية على الحدود الخارجية بعدما فرضت حظراً للتجوال في بغداد وعددٍ من المحافظات العراقية بدءًا من مساء الثلاثاء 29 نيسان وحتى إنتهاء موعد التصويت. ولكن هذه الخطّة الأمنية المشددة لم تتمكن من منع أعمال العنف التي تصاعدت وتيرتها عشية الإنتخابات التشريعية، إذ أسفرت الهجمات المكثفة على مراكز الإقتراع العام للإنتخابات البرلمانية، عن مقتل وإصابة ما يزيد عن 80 مواطن خلال 24 ساعة فقط.

عددٌ كبيرٌ من العراقيين في المناطق غير المستقرة عبّروا عن رغبتهم الملحّة في الإدلاء بأصواتهم، متجاوزين التحدّيات الأمنية. وقد قابلت "النشرة" عدداً من المواطنين العراقيين في المناطق التي تشهد تهديدات أمنيّة.

من بغداد إنطلقنا، حيث عبّر رافد الوائلي عن رفضه التجديد لولاية ثالثة لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، مشدّداً على حقه كمواطن في إختيار الأفضل لمستقبل العراق. يقول الوائلي: "ذهبت إلى الإنتخابات رغم الخوف من تهديدات القاعدة لكنني مؤمن بالتغيير عن طريق صناديق الاقتراع لذلك جازفت بالذهاب الى مراكز الإقتراع"، بينما يعتبر مواطن آخر من بغداد طلب عدم ذكر اسمه أن "مشاركته بالإنتخابات لا فائدة منها، وأن صوته لن يغيّر من الواقع"، متابعاً: "لم أشارك بالإنتخابات لأسبابٍ أمنية وأخرى تتعلق بعدم القناعة".

بدوره، أدلى علي هاشم بصوته في أحد مراكز الإقتراع في العاصمة العراقية. علي الذي كان يظنّ أن "إقبال الناخبين سيكون ضعيفاُ"، عبّر عن تفاجئه من "الإقبال الكثيف إلى مراكز الإقتراع في المحافظات التي تشهد إضطرابات أمنية".

وإلى شمال العراق في محافظة الموصل المضطربة أمنياً، وحيث إشتداد المنافسة بين المرشّحين في القوائم الإنتخابية، يقول الشيخ فارس السبعاوي "إن كثيراً من التهديدات وصلتنا من داعش لعدم المشاركة في الإنتخابات، وشاهدنا عدداً من مراكز الإقتراع تم تفجيرها قبل أيام من موعد الإنتخابات، ومع ذلك ذهبت لإنتخاب قائمة تخدمني".

وغرباً نحو الأنبار التي تشهد تصعيداً أمنياً ومواجهات عسكريّة بين الجيش العراقي ومسلّحين متشدّدين، تؤكّد المواطنة يمامة الأنباري من محافظة الأنبار أنّ "المحافظة تشهد إشتباكات متقطّعةٍ بين الجيش والمسلّحين سواء كانوا من العشائر أو داعش ونحن نشعر بأن الواجب يفرض علينا المشاركة في الإنتخابات من أجل رفع الظلم والحيف عن هذه المدينة". وعن مشاركتها في الإنتخابات رغم التّهديدات الأمنية تقول الأنباري: "لا يمكن ضمان سلامتنا حتى ونحن داخل المنازل جرّاء القصف الحكومي عليها، لذلك لا فرق إن مات الإنسان في منزله أو في مركز إقتراع".

المواطن حسن مانع يشارك يمامة الأنباري في "أهميّة مشاركة السنة في العملية الإنتخابية"، حيث يقول: "إننا متفقون على ضرورة المشاركة القوية مهما تكن النتائج الأمنية، لأننا مللنا من تسلّط رئيس الوزراء نوري المالكي وحزبه على رقابنا، لذا كان عليّ أن أدلي بصوتي أملاً بتغيير هذا الواقع".

علامات إستفهام حول الخطة الأمنية

في سياق متّصل، كان قائد شرطة ديالى اللواء الركن جميل الشمري قد عبّر عن ثقته المسبقة بنجاح الخطة الأمنية في محافظة ديالى التي تشهد أيضاً توتراً أمنياً تصعيدياً خلال الشهرين الأخيرين. وكانت محافظة ديالى قد تعرّضت هي الأخرى لتهديدات من قبل المجموعات المسلّحة لمنع النّاخبين من الإدلاء باصواتهم . وأكد الشمّري أنّ "القوّات الأمنّية كانوا مهيّئين للدفاع بدمائهم عن مراكز الإقتراع"، فيما أشار في تصريحٍ له إلى أن "المؤسسة الامنية تقف على مسافة واحدة من جميع القوى وهدفها هو حماية العرس الديمقراطي".

وقال الشمري "الخطة الأمنية وضعت بعناية فائقة وجرى إدخال تغييرات جوهريّة عليها من أجل مواجهة أي طارئ، مضيفاً "رغم كل ما يقال عن الخطط الأمنية إلا أن شهر نيسان هو الأكثر دموية خلال العام الأمر الذي يترك علامات إستفهام لدى المراقبين والمواطنين عن فشل الخطط الأمنية في حماية المواطنين بالأيام العادية ونجاحها في أوقات الإنتخابات".

نظرة الشمّري حول نجاح الخطّة الأمنية في حماية المواطنين العراقيين، قابلتها إنتقادات مشككة لدور قوات الأمن في حماية الناخبين. آراء جاءت على لسان عدد من المواطنين في مراكز الإقتراع، إعتبرت أن "قوات الأمن فشلت في حماية المواطنين أثناء الإدلاء بأصواتهم، وما الخروقات الأمنية والهجمات على مراكز الإقتراع إلا إثباتاً قاطعاً على ذلك"، بحسب مواطنين.

في غضون ذلك، عبّرت السيدة أمل الساجد في حديثٍ لـ"النشرة"، وهي مرشحة عن قائمة علمانية، عن إعتقادها أن "عزوف كثير من المواطنين (غير المتحزبين) عن المشاركة في الإنتخابات كان من جرّاء التهديدات الأمنية"، ما يرجح حسب رأيها كفة الأحزاب الحاكمة التي تحث ناخبيها على المشاركة الواسعة، وتقول السّاجد "إننا كمرشحين مستقلين اصطدمنا بالمعوق الأمني الذي حال دون مشاركة أغلب شرائح المجتمع العراقي".

العراقيون قالوا كلمتهم، وأسقطوا سرّهم ورغبتهم في صناديق الإقتراع. وبقي أقل من شهر أمام هذه الصناديق لتنطق بالسر الذي أودعه إياها الناخبون. لا أحد يعرف حتى الآن من إختار العراقيون لتمثيلهم في البرلمان، فعملية إعادة العد بدأت لتوّها عقب إقفال صناديق الإقتراع، ولكن مما لا شك فيه أن الكل بات مدركاً أن أهل بلاد الرافدين وجّهوا بإبهامهم البنفسجي رسالةً للإرهاب بأن إصرارهم على تسجيل بصماتهم من أجل التغيير، أقوى من ثقافة الدم وأصلب من أي تهديد.

تقرير ​مريم ياغي