بات الجميع في لبنان يتحدث عن "عقد تأسيسي" جديد بعدما كشف "العقد" الأخير الذي ولد في الطائف السعودية عام 1989 هشاشته بالنسبة لشرائح عديدة في المجتمع اللبناني، ففي حين يعترض البعض على عدم صحة التمثيل، يعترض آخرون على الصلاحيات الممنوحة لطوائف ورئاساتها وحرمان أخرى منها، وهو ما برز في السجال الذي قام أخيراً حول رئاسة الجمهورية، الموقع الأول الممثل للمسيحيين في لبنان.

لقد ساق الرئيس السابق ميشال سليمان جملة اعتراضات عبر عنها في خطابه الأخير في الحفل الوداعي الذي اقامه على "شرف نفسه" في القصر الجمهوري، حيث طالب بتعديل الدستور من خلال بنود عديدة أتى على شرحها. لعل سليمان اصطدم بواقع القيود التي فرضها الدستور على رئيس الجمهورية بعد الطائف، لكنه تناسى ما كانت تفعله تلك الصلاحيات، وما أدت إليه من خراب ودمار وانقسامات ما زالت حتى اليوم تتحكم في البلاد والعباد. في حين أن منح كامل الصلاحيات لرئيس الحكومة (السني) لم يلغ الإجحاف اللاحق بطوائف أخرى على الرغم من حصولها على ما ينتشلها من الحرمان الذي عاشت فيه لعقود طويلة، كما أن التوزيع الجديد للسلطة لم يحل مشكلة الإحتلال الإسرائيلي لقسم كبير من لبنان تعيش فيه غالبية "المحرومين"، وقد زاد تجاهل الدولة من إصرار تلك "الغالبية" على تحرير أرضها عبر اعتماد المقاومة كخيار شكل طيلة الفترة الماضية وحتى الآن اشكاليات عديدة وجدلا لم ينته حول دورها وسلاحها وما فرضاه من موازين قوى جديدة أعادت الإعتبار لدور لبناني مفقود على مستوى المنطقة والعالم.

ما قاله سليمان جهارة تداولته معظم الدوائر السياسية في لبنان وخارجه لا سيما في المنطقة ودولها الراعية للمسار السياسي فيه. إلا أن ما فرض ذلك هو التغير في موازين القوى وعدم قدرة تلك الأطراف على تحمل ما قد ينجم عن هذا التغيير غير المتوقع والذي ازداد بعد تطورات الحرب في سورية والمسارات التي سلكتها عقب مشاركة حزب الله فيها.

هذا التغير في موازين القوى الذي تجلى وعبر عن نفسه بعد حرب إسرائيل على لبنان في العام 2006 والهزيمة التي ألحقها بها حزب الله ومقاومته خلالها، دفع بالولايات المتحدة، التي كانت فشلت بدورها في حربها على المنطقة بعد غزوها للعراق، إلى طرح مشروع "الشرق الأوسط الجديد" بدءً من لبنان والحرب الإسرائيلية عليه، ومن هنا جاءت مشاركة بعض العرب في تلك الحرب من خلال التمويل والطلب إلى الإسرائيليين عدم التوقف على الرغم من المصائب التي كانت تنزل عليهم جراء اخفاق جيشهم في المعارك.

كان ذلك "المشروع" الإيذان الأول في طرح عقد تأسيسي جديد للبنان فيما لو استطاعت تلك الحرب في العام 2006 أن تحقق أهدافها في القضاء على حزب الله ومقاومته، وربما كانت لتكون فاتحة العقود التأسيسية لجميع دول المنطقة التي عادت وتعرضت لحروب ما وصف بـ"الربيع العربي" الذي سرعان ما اصفرت أوراقه وسقطت الواحدة تلو الأخرى في مشهد مرعب لا يمكن حتى اللحظة تخيل نتائجه على ضوء ما يجري في الدول التي لفحها ريحه في ليبيا وتونس ومصر "النموذج" التي تعاني الإنتخابات فيها من "عسر هضم" بعد المشاركة الضعيفة التي ظهرت في الإنتخابات الرئاسية التي تجري حالياً، إلى سورية التي تستعد لدخول عقد تأسيسي جديد طالما دعا إليه الرئيس بشار الأسد منذ توليه مقاليد منصبه في عام 2000 وحتى اندلاع الحرب في بلاده التي أشعلتها دول المشروع ودائما لخدمة تفتيت الشرق الأوسط للإلتفاف على ما نشأ من تغيير موازين القوى فيه.

"العقد التأسيسي" الجديد، أو "تعديل الدستور" من أجل الصلاحيات، أو الحديث عن "المناصفة" و"المثالثة" بما تؤشر عليه هذه الأخيرة من صيغة الحكم الثلاثي (الترويكا) أو حتى "إلغاء" اتفاق الطائف الذي ما زالت أمامه فرصة حقيقية إذا ما أعطي حقه في التنفيذ والتطبيق بحسب الأصول وصولا إلى إلغاء الطائفية السياسية وقانون انتخابي نسبي، كلها تسميات تفرضها المتغيرات الجارية في المنطقة على ضوء تغير موزاين القوى التي يجوز معها التعديل ولكن بما يحفظ حقوق الجميع "بالحد الأدنى" ويضمن عدم الإرتهان للخارج ومصالحه على حساب لبنان.