تعدّ ملفات ​الجامعة اللبنانية​ اليوم الشغل الشاغل للمعنيين وللمواطنين وهي على أهميتها توازي ملف سلسلة الرتب والرواتب. إنّ هذه المؤسسة الوطنية توازي بأهميتها مؤسسة الجيش، فهما عماد هذا الوطن وحجر الأساس فيه. عبر تاريخ الجامعة ومنذ تأسيسها الى يومنا هذا، ما من حق لها إلا وانتزع بالقوة عبر نضال شاق وطويل. ولولا سهر وغيرة أهل الجامعة على الجامعة لكانت اليوم مقفلة ونبكي على أطلالها.

لعلّ أبرز ما يواجه الجامعة اليوم هو عدم إقرار ملف تفرغ الأساتذة وتعيين عمداء بالأصالة. لقد عجزت الحكومة الحالية من استدراك الوضع وإنقاذ ما تبقى من الجامعة الوطنية. هذه الجامعة المنتشرة على مساحة الوطن كل الوطن، تضم كل طبقات وأطياف المجتمع اللبناني. لقد فشلت الحكومة (والفرصة ما زالت مؤاتية أمامها) والحكومات السابقة منذ 2008 من إقرار ملف حيوي كملف التفرغ مع العلم أنّ هذا الملف هو ملف وطني بامتياز لما يتضمنه من توازن وطني نحن بأمسّ الحاجة إليه اليوم في وطننا، وان لجهة مصلحة الجامعة العليا. فهذا الملف هو بمثابة الرئة التي تتنفس منها الجامعة لضمان وجودها واستمرار تألقها. فلا يوجد بلد في العالم المتحضر منه والمتخلف، يتعامل مع أساتذة جامعيين كما تتعامل معهم حكومات بلدنا. أنا لا أحمل هنا الحكومة الحالية المسؤولية كاملة عن هذا الوضع الشاذ بل أحمّل كل الحكومات المتعاقبة المسؤولية ولكن سنحت امام هذه الحكومة فرصة ذهبية كي تصحح الوضع وتعيد لاهل الجامعة ثقتهم بدولتهم. من اكبر المشاكل أيضًا التي أوصلت الجامعة إلى ما هي عليه اليوم، تكمن بقانونية الطريقة التي تعتمدها الدولة بالتعاقد مع الاساتذة، هذه الطريقة المهزلة التي هي بحد ذاتها هرطقة قانونية من خلال بدعة ما يسمى عقود المصالحة.

ان معظم المشاكل التي تمر بها الجامعة هي ليست وليدة اليوم، انما هي نتيجة اهمال واغتصاب اهل السلطة لقراراتها والتي كانت تؤخذ داخل مجلس عمدائها. ولعلّ أهمّ هذه الصلاحيات المسلوبة تفرغ الاساتذة وملء الشغور عند الحاجة وبطريقة متواصلة، فأهل الجامعة هم أدرى بحاجياتها شأنها شأن أهمّ الجامعات في العالم وفي لبنان حتى. المضحك المبكي هنا هو أنه، وفي أصعب الظروف التي مرّ بها وطننا من قهر وعذاب، كانت الجامعة سيدة قراراتها وتتمتع باستقلالية في اتخاذ ما تراه مناسبا لمصلحة اساتذتها وطلابها.

مع انتهاء الحرب الاهلية البشعة، استبشر اهل الجامعة كما معظم اللبنانيين خيرا ظنا منهم ان غد الجامعة سيكون اكثر اشراقا وازدهارا، وأنّ دورها سيكون رياديا عظيما في ترميم أوصال ما تقطع بين اللبنانيين، وإذا بهم يصطدمون بطبقة سياسية تريد تفريغ وإنهاء دور الجامعة كجامعة وطنية. استكملت السلطة هيمنتها على الجامعة، حين صدر في العام 1997 القرار المشؤوم الذي صادرت الحكومة بموجبه صلاحيات مجلس الجامعة، وأضحت الجامعة كما كل مؤسسات الدولة تحت رحمة السياسيين والحكومة وأصبحوا هم من يتحكمون بتعيين عمداء وتفرغ الاساتذة. السؤال الذي يطرح نفسه اليوم، ألم يدرك القائمون على شؤون هذا الوطن بعد أنّ الطريقة التي يديرون بها الدولة وشؤون المواطن، انما هي ترمي الى تجويف مؤسسات الدولة وعلى رأسها الجامعة الوطنية؟ مع الاسف نعم يدرون، منهم من يغض النظر ومنهم من يتقصد ويساهم بهذه المجزرة بحق الوطن. الم يدركوا بعد ان التعاقد الوظيفي هو خطر على مستقبل الدولة؟ اظن ان معظم اللبنانيين يعرف الجواب ولكن ما من مجيب او حسيب او رقيب. الجواب واضح من خلال توقيف التوظيف في الادارات وترسيخ مبدأ التعاقد.

لكن لا ارى كيف ان جيشا سيكون له انتماء لوطنه اذا كان افراده من المرتزقة والمتعددي الولاءات. مع الأسف، هذه هي حال المتعاقدين مع الدولة اليوم. اذا الحل الانسب اليوم لاخراج الجامعة اللبنانية من النفق المظلم التي هي فيه ورفع الظلم والغبن عنها، يكمن في اقرار ملف التفرغ وتعيين مجلس جامعة كخطوة اولية على ان تستكمل بخطوات لاحقة ابرزها اعادة الصلاحيات لمجلسها لتبقى سيدة حرة مستقلة. ان الجامعة اللبنانية اليوم تحتضر، وهنا تأتي مسؤولية كل فرد منا اساتذة وطلاب وموظفين. فإذا ازدهرت الجامعة غنم الوطن وتطور واذا سقطت، سقط الوطن وسقطت معه كل القيم التي على اساسها بني.

* عضو لجنة الاساتذة المتعاقدين في الجامعة اللبنانية