سبق مصطلح "اللبننة" في الظهور باقي المصطلحات المشابهة له، مثل "الصوملة" و"العرقنة" و"السورنة" والليبنة" (من ليبيا)، وهي مصطلحات ليس من المصادفة أنها عربية، تصف أحوال بلدان عربية، وهي في المفهوم المقصود منها لها معنى واحد: الاحتراب والتفتيت، والتراجع عن متطلبات العصر، تحت ضربات المخططات الغربية والصهيونية الرامية إلى تدمير كل البيئة التي يمكن أن تشكّل خطراً على حاضر ومستقبل الكيان الصهيوني الذي يحتل فلسطين ويشرد شعبها، ويهدد كل البلدان المحيطة بها.
ترى أوساط متابعة أن هذه الحقيقة يجب ألا تغيب عن بال اللبنانيين، بعد كل ما شاهدوه من كوارث متنقلة في سورية والعراق ومصر واليمن وليبيا وغيرها، تقف وراءها علناً عشرات الدول الأجنبية، ومن يتواطأ معها من "أعراب النفط"؛ في تحالف شيطاني لا يدري أحد أين سيحطّ وباؤه.
جرثومة هذا الوباء اكتشف المستعمرون مدى تغلغلها في الجسد العربي، ومدى قدرتها على الفتك به وضرب مناعته، فرعَوْها ونموها، وجعلوا من لبنان حقلا لتجاربها، منذ أيام المتصرفية، إلى "إعلان دولة لبنان الكبير"، التي ما تزال تُنتج حروباً داخلية كل عقد من الزمان أو أكثر.
هي جرثومة تعيش على العصبويات الضيقة: طائفية ومذهبية ومناطقية وعرقية، خصوصاً أن مجتمعنا هو نتاج "إمبراطوريات" تسمّت باسم الإسلام، وضمّت نسيجاً من كل الشعوب الإسلامية، ومن كل الأديان والمذاهب، فكان هذا التنوع حيناً غنى، وأحياناً باباً للفتنة والتصارع.
هذا التصارع، الذي يعيش لبنان هذه الأيام بعضاً من أسوأ مظاهره التي تدور حول المواقع الرئاسية وأدوارها، يعيد لبنان إلى ما يشبه زمن "الدول السبع"، حيث يمدّ الخارج أياديه للتدخل بحجة حماية هذه الطائفة أو تلك، وتعلو الأصوات الطائفية على ما عداها من أصوات جامعة وغير فئوية.
لم يكف لبنان في السابق "تطييف" كل شيء فيه، حتى كان يقال إن لكل منتج زراعي هوية طائفية، فللقمح طائفة، وللتفاح طائفة أخرى، وللتبغ كذلك.. وجرت التضحية بزراعة الشمندر السكري عندما لم تتوفر مرجعية طائفية تحميه!
أما اليوم، فالكباش الطائفي بات يدور حول تبرئة عملاء "إسرائيل"، أو نزع صفة "الإرهاب" عن البعض، أو حماية الزراعات الممنوعة وغيرها، فلكل مرجعية طائفية مصلحة في مكان، بغض النظر عن مصلحة الوطن وأبنائه باعتبارهم مجموعة إنسانية واحدة، لا قطعان طوائف وقبائل.
هل يُعقل أن الذي كان يقال إن "مجد لبنان أعطي له"، أي بطريرك الموارنة، يُسقط مبدأ إدانة التعامل مع العدو، لأن له مصلحة في استعادة بضع مئات من الذين تعاملوا مع العدو "الإسرائيلي"، وقتلوا وأساؤوا لإخوانهم في الوطن، فباتو بعرفه "ضحايا"؟
وهل يُعقل أن هذه المرجعية الروحية تطالب بوقف التشريع، أي إسقاط الدستورية عن السلطة كلها، لأن التوافق غير متوفر لانتخاب رئيس للجمهورية؟ وهل تمثيل الطوائف في السلطة أهمّ من بقاء البلد ومن استمرار الحد الأدنى من مؤسساته الرسمية؟ وقد بتنا نشاهد "قيادة" كل طائفة تريد تعطيل عمل المؤسسة المحسوبة على الطائفة الأخرى، وبات شعار المرحلة التعطيل وليس البناء.
الأمر نفسه يقال عن مواقف المرجعيات السياسية الطائفية تجاه مختلف القضايا التي تهمّ المواطن، باعتباره إنسانا قبل أن يكون رقماً في سجلات الطوائف والمذاهب، وهذا الأمر شاهدناه في تضارب المواقف تجاه تثبيت شريحة من الموظفين هنا، أو إنصاف عاملين هناك، حتى اقترب الأمر من إعطاء صبغة طائفية لموظفي الدولة المطالبين بإنصافهم عبر إقرار سلسلة جديدة للرتب والرواتب، بما يعني إعطاء صفة طائفية للرأسماليين والمستغلين تحميهم من المساءلة والمحاسبة ودفع حقوق الدولة والناس.
أين هذا الكلام مما تشهده المنطقة برمّتها على وقع الفتن التي ينشرها الغرب الاستعماري وأتباعه؟
من المؤكد أن التحالف الشيطاني الذي أحرق لبنان في سبعينيات القرن الماضي، ليشكّل دخانه ستارة لزيارة أنور السادات إلى الكيان الصهيوني، والذي احتل العراق سابقاً، وها هو يحرقه اليوم، كما أشعل مصر وأحرق سورية وليبيا، ليس حريصاً على لبنان، ولا يمكن الركون إليه في عدم تحويل "الكباش" الطائفي الدائر فيه على مستوى السلطات العليا، إلى فتنة في الشارع.
هذا الأمر يدفعنا للقول إن مشكلة لبنان ليست في شغور موقع رئاسته، لأن الشغور هو في نظامه الذي لا يؤمّن مصالح أبنائه، ولا يحميهم ويؤمّن حاضرهم ومستقبلهم.