الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم باحسان إلى يوم الدين أما بعد:

ندخل في هذه الأيام في ​شهر رمضان​ المبارك وأنَّ الله تعالى قد منَّ علينا ووفقنا لبلوغه ليمنحنا فيه الرقي في مدارج العبادة والعمل، وأن نتدرب في مقام الخشوع والضراعة، وأن ندعو بقلوبنا أن تلين بذكر الله والتفكر في بديع خلقه، وأن نقوي همتنا لأن تسمو إلى مراحل الجد والاجتهاد والعمل ونفع الناس.

ولقد فضل الله تعالى شهر رمضان على كثير من الأزمنة وإن كان رمضان هو أفضل الشهور على الاطلاق، فإن أيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي، لذلك فإن المطلوب منا في هذه الايام والليالي :

1- إحياء هذه الليالي بالصلاة والذكر والدعاء.

2- قراءة القرآن وترتيله وتدبر آياته.

3- الانفاق والصدقات، ودفع زكاة المال وزكاة الفطر .

4- إطعام صائم.

5- مساعدة الناس ومواساة الفقراء والمساكين وكفالة الأيتام والأرامل.

6- تعلم العلم وتعليمه والاستزادة من المعرفة والثقافة وخاصة في علوم الدين.

7- الاعتكاف وإن لم يتمكن طيلة عشرة أيام، فلو اعتكف يوماً أو أقل.

8- تحري ليلة القدر، واحيائها بطاعة الله تعالى.

إنَّ تحقيق معنى العبادة في شهر رمضان يكون بتحقيق وإقامة معاني العبودية الحقيقية التي أرادها الله عز وجل، والتي لا تقتصر على التبتل والانقطاع عن الحياة والتوقف عن أداء واجب عمارة الأرض، وشلل حركة التطور والحضارة، وانما العبادة في مفهومها الاسلامي الصحيح، تكون في تحقيق ارادة الله تعالى بأن نعمر الأرض ونبني الحضارة الراقية، ونؤمن لنا ولأبنائنا الأزدهار والرخاء والاستقرار في الحياة، وذلك لا يكون إلا عن طريق العمل الدائم والمستمر طيلة أيام السنة، بقول الله تعالى: "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (سورة النحل، الآية 97).

فالحياة الطيبة هي الحياة المستقرة المتحضرة الغنية بالخدمات المتطورة والتي ينعم بها الإنسان بجهد أخيه الانسان من خلال الاختراعات والاكتشافات العلمية ومن خلال الخدمات الوظيفية والادارية والتعليمية، والتي لولا العمل وبذل الجهد لما تحققت كلها، وهذا كله بشرط أن يتلازم العلم والعمل مع الإيمان والاخلاق والقيم الراقية.

وهذا كله يؤكد أنَّ الحياة لا تستقيم بدون عمل مثمر، وأنَّ الاسلام لا يفرق بين العبادة كالصلاة والصيام... وبين عبادة كسب الرزق والسعي في سبيل العيش، بل أحياناً قد تفوق قيمة العمل وثواب العامل قيمة بعض العبادات، فقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم يوماً عن أحد الصحابة وقد غاب عنه، فقال إخوتُه: "إنه يصوم النهار ويقوم الليل"، فقال الرسول: "فمن يطعمه ويكسوه؟" قالوا: "نحن"، فقال: "كلكم خير منه". نعم إنه رفض لمنهج السلبية والتواكل، ورفض لمنهج الاحتجاج بالعبادة الظاهرية لترك العمل والسعي، وأن يكون عالة على الآخرين.

ولقد ساوى النبي صلى الله عليه وسلم بين كثرة الاستغفار والطاعة الموصلة لمغفرة الله وعفوه، وبين العمل اليومي وأن يعود الانسان متعباً وقد بذل جهده ونالته مشقة في عمله، فقال إنَّ هذا لوحده كفيل بأن يوصل صاحبه إلى مغفرة الله وعفوه، فقال صلى الله عليه وسلم: "من أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفوراً له".

بل لقد وصل الأمر في الاسلام أن جعل الهدف الأسمى والأعلى للعباد والزهاد والطائعين هو أن ينالوا محبة الله لهم، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه المحبة محققة لمن ينفع الناس ويعمل على افادتهم وخدمتهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله" –وعياله هم كل خلقه الذي يعيلهم ويطعمهم ويرزقهم.. من الاعالة- فالذي يريد أن ينال محبة الله تعالى وأن يكون حبيباً لله فما عليه إلا أن ينفع الناس ويوصل الخير إليهم ويفيدهم من خلال الموقع الذي أقامه الله فيه، ومن خلال عمله الذي يؤديه.

ولأهمية العمل، نرى أنَّ كثيراً من آيات القرآن الكريم تدعو إلى العمل وتحث عليه، وتقرن الإيمان بالعمل الصالح، وإن مفهوم الإسلام للعمل الصالح هو العمل الذي ينفع الناس ويفيد المجتمع، ولا فرق في ذلك بين أعمال الخير التطوعية وبين الأعمال الوظيفية التي تكون مقابل أجر أو مكافأة.

علينا أن نلاحظ ونتأكد من أنَّ الرابط بين رمضان وبين العمل هو رابط العبودية والتعبد لله والطاعة له سبحانه والتقرب إليه، فكما أن العبادة في هذه الأيام لتحقيق هذه المعاني، فكذلك العمل الصالح يحقق كل ذلك ايضا، وخاصة عندما تقف ظروف الحياة وواجبات الوظيفة مانعة دون التفرغ الكامل للعبادة في شهر رمضان، الاسلام لا يريد أن يحرمك ذات الاجر والثواب، بل يريد أن يعطي نفس القيمة الروحية والإيمانية إن أنت أديت عملك بشكل صالح وصحيح، قال الله تعالى: "وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ" (سورة العنكبوت – الآية 7).

فالاسلام يريد من المسلم أن يكون صادقاً في كل أحواله، وأن يكون ذاكراً لله طائعاً له وهو يعمل في الحقل مزارعاً وأن يكون ذاكراً لله عابداً له وهو يعمل في متجره بائعاً، وأن يكون ذاكراً لله مطيعاً له وهو في دائرة عمله موظفاً... ففي كل زمان وفي أي مكان، المسلم الحق يعتقد ويتيقن أن الله معه يسمعه ويراه يتقبله ويقربه، ويرى عمله ويقدره، فحيثما كنت تستطيع ان تتقرب إلى الله سبحانه وذلك باخلاص النية وصدق الطوية وحسن العمل، فربنا سبحانه هو هو في رمضان وقبله وبعده وطيلة أيام السنة، وأذكركم أخيراً بقول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: "ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته أو آخرته لدنياه، حتى يصيب منهما جميعاً، فإن الدنيا بلاغ إلى الآخرة ولا تكونوا كلاً على الناس".

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

* المديـر العام للأوقاف الاسلامية في لبنان الشيخ هشام يحيى خليفة