تشهد الساحة العراقية تطوّرات مُتسارعة، تُمثّل سباقاً بين ترسيخ تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات عرقية ومذهبيّة بحكم الأمر الواقع، وإعادة فرض شبه سلطة مركزيّة ولو في ظلّ واقع ديمغرافي مقسوم إلى ثلاثة كيانات. فهل ستنجح الجهود السياسية والتدخّلات الخارجية، خاصة الأميركية والإيرانيّة، في إعادة الوحدة المكسورة، ولو ظاهرياً، أمّ أنّ الوقائع العسكرية ستثبّت الإنقسام ميدانياً، تمهيداً لتثبيته دستورياً؟

الإجابة الأساسيّة على هذا التساؤل تتمثّل في النتيجة التي ستؤول إليها المعارك المستمرّة بين وحدات الجيش العراقي الموالية لرئيس الوزراء ​نوري المالكي​ والميليشيات الشيعية المؤيّدة له من جهة، وبين مسلّحي تنظيم "داعش" الإرهابي من جهة أخرى، مدعومين من قبل كل من ميليشيات سنّية مُشكّلة من عسكريّين سابقين في الجيش العراقي في عهد الرئيس العراقي السابق صدّام حسين، ومن منتمين إلى حزب البعث العراقي المنحلّ، وكذلك من رجال عشائر وقبائل سنّية. وقد وجدوا جميعهم أنّ الفرصة مؤاتية للسيطرة على المناطق ذات الثقل الشعبي السنّي، ولمحاولة إسقاط حكم المالكي. ويُعوّل نظام المالكي على تدخّل عسكري أجنبي، أقلّه عبر التغطية الصاروخية من الجوّ، لإعادة بسط سيطرته على المناطق التي فقدها، علماً أنّ التحركات والتصاريح الأميركيّة تمهّد الطريق لهكذا تدخّل. وإذا كان الصراع العسكري بين سنّة وشيعة العراق طبيعياً، بعد تحوّل السلطة من حكم مستبدّ بحق الشيعة في عهد صدام إلى حكم مستبد بحق السنّة في عهد المالكي، كان لافتاً الإتجاه المتزايد لدى أكراد العراق إلى إعلان دولتهم المستقلّة تماماً، في ظلّ دعوات لكتابة دستور وقوانين خاصة. وترافق ذلك مع إستكمال برلمان الإقليم الكردستاني إستعدادته لإجراء إستفتاء على إستقلال الإقليم، في حال فشل السلطات في بغداد في تشكيل حكومة شراكة حقيقية، بالتزامن مع تأكيد رئيس إقليم كردستان-العراق، ​مسعود بارزاني​، رفض سحب قوات البشمركة من المناطق المتنازع عليها مع سلطات بغداد، وفي طليعتها مدينة كركوك النفطية، قبل تسوية الوضع ككل. وليس سرّا أنّ كركوك تُعتبر مدينة إستراتيجيّة نظراً إلى موقعها الجغرافي، وكذلك إلى غنى مخزونها من النفط الخام والغاز. وكان لافتاً أيضاً قيام بارزاني أخيراً ببعث رسالة إلى المرجع الشيعي الأعلى في العراق السيد علي السيستاني، يُحذّر فيه من خطر تقسيم العراق في حال بقاء المالكي على رأس الحكومة.

في غضون ذلك، وبعد أن إتخذت سلطات المملكة العربيّة السعودية إجراءات أمنيّة داخليّة مشدّدة لمنع إستغلال أي طرف للفوضى القائمة في الكثير من المناطق العراقية، لتوجيه عمليّات إرهابية ضد المصالح السعودية، تحدّثت تقارير إعلامية عن إنتشار نحو ثلاثين ألف جندي سعودي على طول الحدود مع العراق، وذلك في ظلّ تلقّي معلومات متزايدة عن خطط لمحاولات تسلّل يتمّ التحضير لها عبر المناطق الحدودية التي تشهد تسيّباً أمنياً حالياً، وذلك بهدف تمرير إنتحاريّين ومتفجّرات إلى داخل السعودية، لتنفيذ عمليّات إرهابية ضد مصالح سعودية وغربيّة على السواء، بحسب مراقبين متابعين للوضع العربي. وفي المقابل، رأى مراقبون آخرون أنّ الإنتشار العسكري الكبير للجيش السعودي على الحدود مع العراق يهدف إلى توفير الدعم اللوجستي و"الظهر الآمن" لقوى مسلّحة محسوبة على الرياض تقاتل حالياً لإسقاط نظام المالكي.

وفي الوقت الذي تدلّ فيه كل التطوّرات العسكرية والسياسية الإتجاه السريع نحو تقسيم العراق، تجهد السلطات في بغداد لمنع حدوث هذا الأمر، حيث عمدت إلى التخفيف من وطأة فشل البرلمان العراقي في إنتخاب رئيس له خلال الأسبوع الماضي، مع السعي لعقد جلسة جديدة له قريباً. وكان لافتاً تأكيد التحالف العراقي الشيعي، والذي يمثّل الكتلة النيابية الأكبر، إلتزامه بالموافقة على مرشّحي الأكراد والسنّة لمنصبي رئاسة الجمهورية والبرلمان، في محاولة منه لتخفيف أجواء الإحتقان المذهبي والعرقي. وتزامنت هذه الخطوة مع محاولة لفصل مقاتلي "داعش" عن باقي المقاتلين المُنتفضين على السلطة المركزيّة في البلدات والمناطق ذات الأغلبيّة السنّية، حيث أعلن رئيس الوزراء العراقي عفواً مشروطاً عن مسلّحي العشائر العراقية، أتبعه بعفو آخر عن ضبّاط سابقين في الجيش العراقي.

في الخلاصة، السباق في العراق محموم بين تثبيت الأمر الواقع والتمهيد للتقسيم، وإستعادة وحدة مزيّفة بالقوّة. والمعادلة واضحة: كلّما تأخر حسم قوّات المالكي للوضع عسكرياً، زادت فرص التقسيم أكثر فأكثر.