لقد ضبط الله تعالى الصوم – والذي هو فلسفة انقطاع ووصل مع الله تعالى - على هدف محوري هو التقوى، فقال تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (سورة البقرة، الآية 183).

على أن التقوى هي عملية معرفية سلوكية مفادها إعادة بناء الذات في نظرتها لنفسها وللأشياء، بما في ذلك الثروة والسلطة والقيم الاجتماعية والهدف المدني، ضبطاً على منزلة الإنسان الإلهية، على اعتبار أن الله تعالى استخلف البشر في الأرض ليكرّسوا الحقيقة السماوية فيها.

نعم، بهذا المعنى تصبح القيم الذاتية والاجتماعية جزءاً من التركيب الفكري والسلوكي للإنسان، لا على نحو الفردية المحضة، بل الهدف منه بناء الجماعة الإنسانية بهذا المحور الأخلاقي الذي يتوسم السماء كضرورة في معادلة بناء الحكم والحكومة، وأخلاقية السلطة ومشروع الدولة وهدف الإنسان.

من هنا لحظت ركيزة الصوم الإنسان الصادق والمتفاني بخدمة الجماعة الإنسانية والمحبّ لها والمتمكن من التصدي لحل قضاياها، الساعي لتكريس الإلفة والعون العام لحاجاتها، لدرجة أن المتون السماوية اعتبرت أن الأقرب إلى الله يوم القيامة أقربهم نفعاً لرعيته في الأرض، وأن المخذول يوم القيامة هو من خذل رعية الله فيما وجب لها.

بهذه الحيثية، فإن البناء الفردي والاجتماعي طرف المعادلة الأساس في عملية الصوم، وهذا يعني أن دور الصائم لا بد أن يكون تفاعلياً في بيئته ومجتمعه وطموحه المدني والوجودي، فلا يمكن للصائم أن يكون معزولاً أو أن يعزل نفسه، أو ضعيفاً في الحق أو هزيلاً بمشروع الإنسان، بل لا بد أن يكون قوياً مصلحاً متمكناً من دوره بالجماعة التي يعيش بينها ساعياً لتحصيل الشروط والعناوين التي تقربه من أطروحة الكمال الأخلاقي.

لذلك، فإن الصوم في فقه المعارف السماوية يعني تأدية دور فردي جماعي يعيش عدالة السماء وطموحها الذي جعلته عنواناً ضرورياً لعالم الكمالات الإنسانية في الأرض.

ولأن الصوم هذا هو معناه في ​الإسلام​، فقد كرسناه عنواناً لمسيرتنا في لبنان، فأكدنا على الأخلاق العامة كإطار مركزي لإطروحتنا السياسية الاجتماعية وباعتبار الأنسنة مركز الحيثية الحقوقية نزولاً على قول الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام):"الرعية صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق" بخلفية أن الشراكة بالخلق يمكنها أن تؤسس للشراكة الحقوقية.

إلا أن ما نعاني منه في بلدنا هو الأنانية والنزاعات الأخلاقية ووحشية المال، واللعبة الأقذر الطائفية، وعقلية الاستئثار والاحتكار وتجيير المنافع العامة لخدمة الخاصة باختلاف معاييرها.

والأخطر من ذلك أن العقل السياسي في هذا البلد يرى الإنسان مجرد هتّاف، بعيداً عن جانبه الاجتماعي المدني الذي يعاني أكثر من الجوع والوجع والقلق والخوف وعدم الضمانات.

ولأننا نعيش روحية الصوم، فإننا نكرر أن الدولة "مشروع إنسان وليس صفقة" وأن النظام السياسي هو معرفي اجتماعي قبل أن يكون سياسياً.

بالمختصر المفيد إننا نصر على أطروحة الوحدة الوطنية وروحية الأديان والعيش المشترك ولبننة القضايا وتكريس الهوية الاجتماعية أساساً للنظام السياسي.

وتحت هذا المعنى ندعو إلى انتخاب رئيس جمهورية جامع، وقانون انتخاب وطني لا مذهبي، والذهاب إلى إصلاح قوانين الرقابة والتخطيط والقضاء "خاصة"، لأن بلداً من دون رقابة وتخطيط وقضاء ليس فيه سلطة اسمها قانون.

ختاماً، مع شهر الله، على عقولنا أن تأمر ذواتنا بأن تعرّف الأشياء بناءً على أن معادلة هذا الوجود تبدأ من الله وتنتهي بالإنسان، وأما السياسة التي تغتال الإنسان فلن تكون من الله في شيء.

* المفتي الجعفري الممتاز