لقد مضى أكثر من شهرين على التدخّل العسكري الجويّ في العراق، وأكثر من أسبوعين على التدخّل العسكري الجويّ في سوريا، لكن دفّة المعارك الميدانية لا تزال تميل حتى تاريخه لصالح مقاتلي تنظيم "داعش" الإرهابي. وأحدث إنتصاراته تمثّل بالسيطرة على بلدتي "هيت" و"الكبيسة" شمال غرب العاصمة العراقية، وباقتحام مدينة "عين العرب" ("كوباني") السوريّة على الرغم من شَراسة المُقَاتلين ​الأكراد​ الذين لا يزالون يُقاتلون في العديد من الأحياء. فما هي الأسباب التي تمنع تركيا من التدخّل عسكرياً في مناطقها الحدوديّة مع سوريا، وهل من شروط تضعها أنقره لذلك؟

إشارة بداية إلى أنّ البرلمان التركي صادق على التحرّك العسكري ضد "داعش" وعلى فتح الأراضي التركية لقوات التحالف، لكن الحكومة التركية لم تعط الضوء الأخضر لذلك بعد، على الرغم من الضغوط الخارجية والداخلية التي تتعرّض لها، مثل الضغوط الدبلوماسية من أميركا وعدد من الدول الغربية، ومثل التظاهرات الكردية في الأراضي التركية(1). وأبرز الأسباب وراء التلكّؤ التركي تُختصر بالتالي:

أوّلاً: إنّ معظم المُقاتلين الأكراد في "كوباني" يَنتمون إلى "حزب العمّال الكردستاني" الذي لطالما تواجه مع ​الجيش التركي​، والذي تَعتبره تركيا "منظّمة إرهابيّة" وتسجن رئيسه عبد الله أوجلان منذ 15 سنة، وبالتالي أنقره غير مُستعجلة إطلاقاً لإنقاذ هؤلاء المُقاتلين.

ثانياً: إنّ سقوط "عين العرب" كلياً، وتهجير الأكراد منها، يَعني عملياً سُقوط الحلم الكردي بإقامة كيان مُستقلّ في سوريا، على غرار "كردستان العراق". وهذا هدف أساسي لأنقره التي تعمل على إبعاد أكراد سوريا عن أكراد تركيا جغرافياً، منعاً لتوحّدهم في دولة مستقلّة مُستقبلاً.

ثالثاً: على الرغم من العلاقات السيئة بين تركيا من جهة وكل من سوريا وإيران من جهة أخرى، فإنّ الأمور لم تتجاوز في السابق الصراع السياسي أو المواجهة غير المباشرة، وتخشى أنقره أن يُؤدّي أيّ تدخّل مُنفرد من قبلها إلى تطوّرات ميدانية دراماتيكيّة تجعلها في قلب الصراع الأمني على الساحة السورية، وأن يعيد فتح ملف "لواء الإسكندرون"، خاصة في ظلّ التحذيرات السورية والضغوط الإيرانية والدعوات الروسية لعدم التحرّك خارج الأمم المتحدة.

رابعاً: إنّ هدف أنقره من أيّ تدخّل عسكري مُحتمل في سوريا، يختلف تماماً عن الأهداف التي تطلبها واشنطن، أو عن تلك التي تُحرّك الدول الحليفة معها، خاصة الخليجيّة منها. وبالتالي، إنّ تضارب المصالح بين تركيا وباقي الدول المتحالفة ضد "داعش"، يجعل أنقره غير مستعجلة للتحرّك عسكرياً ما لم يتم تلبية شروطها، وأبرزها يتمثّل بإقامة منطقة عازلة لإيواء النازحين السوريّين إلى أراضيها(2)، وفرض منطقة حظر جوي على غرار تلك التي أقيمت في العراق في تسعينات القرن الماضي، والشروع جدياً في تدريب المعارضة السورية، والعمل على إسقاط الرئيس بشار الأسد ضمن خطة واضحة ومتكاملة، وإشراك تركيا بشكل فعّال في أيّ حل نهائي للأزمة في سوريا.

خامساً: ترفض أنقره إهمال حماية أيّ مكوّن سوري، حيث تؤكّد تركيا أنّ الخطر لا يقتصر على الأكراد بل على التركمان وباقي الإتنيّات والقوميّات من دون إستثناء.

ومن الضروري الإشارة إلى أنّ تركيا لم تكتفِ بعدم التدخّل عسكرياً في "كوباني" فحسب، بل لم تسمح لطيران "الحلفاء" باستخدام قواعدها الجويّة العسكريّة لشنّ الغارات على سوريا، الأمر الذي أجبر الطيّارين على الإلتفاف فوق الأردن لتنفيذ الغارات، علماً أنّ طيران الجيش السوري لا يقوم بدوره بقصف حشود مقاتلي تنظيم "داعش" حول "عين العرب"، في مُفارقة لافتة تعكس رغبة النظام السوري بضرب الكيان الكردي المُستقل، شأنه شأن النظام التركي.

في الخلاصة، حتى اللحظة لا قرار بأيّ تدخّل عسكري تركي مباشر داخل الأراضي السورية، لكنّ تلبية الشروط التي وضعتها أنقره – ولو بشكل جزئي، ومساعدتها على تحقيق مصالحها الإستراتيجية، قد يفتح الباب واسعاً أمام كل الإحتمالات. وتكفي ذريعة صغيرة واحدة، على غرار تفجير وتدمير قبر "سليمان شاه" في "كوباني"، والتي قد تُحرّكها أيدٍ إستخبارية، لبدء التحرك العسكري التركي الميداني عند إتخاذ قرار بذلك.

(1)شهدت تركيا سلسلة تظاهرات للأكراد في الأيام الماضية أوقعت عشرات القتلى والجرحى في مواجهات دموية مع رجال الأمن، علماً أنّ أنقره تخشى حصول إنتفاضة كردية داخلية، باعتبار أنه يوجد في تركيا نحو 16 مليون كردي تركي ينتشرون على نحو ربع مساحة الأراضي التركيّة.

(2)تستضيف تركيا أكثر من مليون ومئتي ألف نازح سوري، وقد تدفّق إليها أكثر من 180 ألف كردي سوري منذ توالي سقوط البلدات والقرى التي كانت بحوزة الأكراد قبيل إنطلاق هجمات مقاتلي "داعش" ضدّهم في 16 أيلول الماضي.