إعتباراً من منتصف أيلول الماضي، شنّ مسلّحو تنظيم "داعش" الإرهابي سلسلة هجمات واسعة النطاق على مدينة "عين العرب" الحدودية بين سوريا وتركيا، وهم نجحوا بإقتحام أجزاء كبيرة منها على الرغم من المقاومة الشرسة التي واجهوها من قبل المُقاتلين ​الأكراد​. لكنّ التقدّم "الداعشي" كان تصاعدياً ولو بشكل بطيء، وكاد بالتالي أن يؤدّي إلى سقوط المدينة بأكملها، قبل أن تبدأ الأمور بالإنقلاب تدريجاً لصالح المدافعين. فما هي الأسباب الميدانية وراء هذا التحوّل في مجريات معركة "كوباني"؟

أوّلاً: أظهرَ المُقاتلون الأكراد، وأغلبيّتهم من سوريا، شراسة قتالية عالية، حيث حمل الكبار والصغار والرجال والنساء، ما تيَسَّر من سلاح، وقاوموا بعنف حتى آخر طلقة يملكونها، مع تنفيذ بعضهم عمليّات نوعيّة وإنتحارية. ولعب هذا الأمر دوراً مُهمّاً في تغيير وجه المعركة، باعتبار أنّ أسابيع الصمود الطويلة، ساهمت في تبلور أساليب المساعدة الخارجية بعد تذليل العقبات السياسية واللوجستية من أمامها.

ثانياً: لعبت مغادرة الأكراد السوريّين المدنيّين وعددهم نحو مئتي ألف نسمة، المدينة بشكل كامل إلى الأراضي التركيّة، دوراً مُساعداً في صمودها، حيث سمحت للمُقاتلين المدافعين عن "عين العرب" باعتماد القتال التراجعي أمام هجمات "داعش" في بعض الأحيان، والهجمات المُضادة في أحيان أخرى، من دون أي خشية بسقوط ضحايا من المدنيّين.

ثالثاً: كان للتدخّل الأميركي العسكري دور مؤثّر أيضاً في صمود "كوباني"، حيث أدّت عشرات الغارات الجويّة(1)على مسلّحي "داعش" في محيط المدينة وعلى أطرافها، إلى إلحاق خسائر كبيرة في العديد والعتاد لدى القوى المُهاجمة، إضافة إلى منعها مسلّحي "داعش" من التجمّع العلني بأعداد كبيرة تحضيراً لإطلاق الهجمات. كما ساهمت الأعتدة والذخائر والمُؤن التي ألقتها طائرات "الحلفاء" فوق مناطق السيطرة الكرديّة في المدينة، في تعزيز قدرات المقاتلين الأكراد الدفاعية.

رابعاً: رفضت تركيا التي تعتبر "حزب العمّال الكردستاني" منظّمة إرهابية مساعدة المقاتلين المحسوبين عليه داخل "كوباني"، لكنّها في الوقت عينه سهّلت وصول مقاتلين أكراد عراقيّين (معروفين بإسم "البشمركة") إلى داخل "كوباني" مع عتادهم العسكري، نتيجة الضغوط الكبيرة التي تعرّضت لها من جانب أكراد تركيا(2)ومن الكثير من دول العالم الغربي، الأمر الذي ساهم بدعم المُقاتلين الأكراد السوريّين بشكل كبير، عبر التغطية المدفعيّة والصاروخيّة من جهة، وعبر تأمين الحماية للمناطق الخلفيّة والسماح لأكراد سوريا بالتقدّم إلى الجبهات. يُذكر أنّ أنقرة تتخذ موقفاً عدائياً من الجماعات الكردية التي تدين بالولاء للزعيم عبد الله أوجلان، لكنّ علاقاتها ليست سيئة مع "كردستان العراق"، الأمر الذي سمح بوصول إمدادات عسكرية من أكراد العراق إلى أكراد سوريا، من دون مواجهة أيّ "فيتو" من الجانب التركي.

خامساً: تركيا التي تطمح لإقامة منطقة عازلة على حدودها المُشتركة مع سوريا، ولكنّها تخشى من إقامة منطقة حكم ذاتي كرديّة مُسلّحة، سمَحت أيضاً بمرور مجموعات كبيرة نسبياً من وحدات "الجيش السوري الحرّ" إلى "عين العرب"، الأمر الذي خفّف الضغط عن المقاتلين الأكراد الذين تفرّغوا عندها لجبهات مُحدّدة، ولو أنّهم خسروا عملياً سيطرتهم المباشرة على المناطق التي إنتشرت فيها الوحدات المُنشقّة عن الجيش السوري النظامي.

وفي الخلاصة، الأكيد أنّ واقع "كوباني" اليوم هو غير ما كان عليه قبل نحو شهرين، من حيث حجم التدخّل الإقليمي والدَولي، ما يعني أنّ المعطيات التي كانت عند إطلاق مُسلّحي "داعش" هجومهم، تبدّلت كلياً اليوم. وبالتالي، إنّ فرص صمود المدينة، وهزيمة مسلّحي "داعش" في أحيائها وعلى أطرافها، صارت أكبر من أيّ وقت مضى.

(1)نحو 140 غارة من أصل نحو 2000 غارة على مجمل مواقع التنظيم الإرهابي في سوريا والعراق.

(2)نحو 15 مليون كردي تركي من أصل نحو 76 مليون تركي عموماً، أي نحو 20 %.