منذ ان قررت ايران ممارسة حقوقها التي يكفلها القانون الدولي بكل قواعده ذات الصلة بامتلاك التقنية النووية و استعمالها للاغراض السلمية ، منذ ذاك الحين وبذريعة الادعاء بانها تسعى لامتلاك السلاح النووي ، تتعرض لكل انواع الضغط و الحصار و العقاب من قبل منظومة الدول المتحكمة بالقرار الدولي التي تدعي الحرص على الامن و السلام الدوليين رغم ان فيها من هم اشد المنتهكين لهذا الامن و ذاك السلام ، و فيها اعتى المعتدين على الشعوب و المصرين على ممارسة اسوأ انواع الاستتباع و الهيمنة فضلا عن سلب الثروات و الحؤول دون تقدم الاخرين .

و رغم ان ايران قدمت الدليل تلو الدليل ،و فتحت منشآتها النووية للتفتيش الدولي وفقا لقواعد اتفاقية حظر انتشار الاسلحة النووية ، مثبتة بانها لا تسعى و ليست لديها النية لتصنيع القنبلة النووية ، ثم اغنت ادلتها بالفتوى الشرعية التي اصدرها المرشد الاعلى للدولة، الذي افتى بحرمة تصنيع و امتلاك و استعمال القنبلة النووية ، رغم كل ذلك استمرت منظومة التحكم بالقرار الدولي على مواقفها و ادعائها بان ايران تسعى لامتلاك السلاح النووي و انها تخفي عن الغرب ما لديها من تقنية و ما انجزته على طريق امتلاك القنبلة النووية ، ادعاءات لم يقم الغرب دليلا واحدا عليها لكنه تعامل معها على اساس انها الحقيقة ،التي تبرر له انزال العقوبات بالشعب الايراني عبر مجلس الامن ثم من خارج مجلس الامن خاصة من قبل اميركا و الاتحاد الاوربي ، عقوبات توخى الغرب منها وقف البرنامج النووي الايراني و منع ايران من تطوير قدراتها لمصلحة شعبها ، هذا هو ظاهر المواجهة اما باطنها فقد كان ابعد من ذلك .

فايران و الغرب على حد سواء كانوا على يقين بان السلوك الغربي الكيدي هو ردة فعل على مواقف ايران و سياستها التي جعلتها متفلته من الهيمنة الغربية خاصة في المسائل الاساسية التي يبنى عليها الغرب استراتيجته في المنطقة و التي اولها الموقف من اسرائيل التي رفضت ايران الاعتراف بها و انتظمت في محور اقليمي لمقاومة عدوانها ، و دعت الى اعادة فلسطين الى اهلها و اقامة النظام الديمقراطي و العمل بقرار الشعب الفلسطيني الاصلي الذي له ان يحدد من يجب ان يبقى على ارضه و من يجب ان يغادر ، و ثانيها النزعة الاستقلالية الجدية الرافضة لمنطق الغرب الاستعماري و هيمنته على الدول و الشعوب و منعها من امتلاك ثرواتها و استعمالها في مصالحها الذاتية ، و ثالثها السير في طريق التقدم و التطوير العلمي و الاقتصادي بما يخفف من اعتماد ايران على الخارج و يحفظ للشعب الايراني الحد الاقصى الممكن من الرفاهية و اخيرا القرار الايراني الحازم بحشد مصادر القوة التي تمكن ايران من الدفاع عن مصالحها و ترسي معادلة توازن الردع مع منظومة التحكم الدولية بالعالم .

لقد كان الملف النووي الايراني مدخلا او ذريعة غربية لتحقيق اهداف اخرى لا يشكل الموضوع النووي الا جزءا بسيطا منها ، و كان اصرار غربي على مواصلة الضغوط و بشتى الوجوه حتى تحقيق تلك الاهداف و ثني ايران عن نزعتها الاستقلالية و اعادتها الى حظيرة التابعين المستسلمين للغرب .

مقابل ذلك وجدت ايران نفسها امام خيارين اما الاستسلام للغرب و التنازل عن كل ما قامت ثورتها من اجله ، او التحمل و المواجهة لفرض حقوقها على الاخرين . وبين الامرين اختارت ايران الثاني مع علمها بكلفة هذا الاختيار عليها كدولة و على شعبها في اكثر من جانب من جوانب حياته .

و الان و بعد سنين من المواجهة لامست عقدا من الزمن ، مواجهة تميزت بالصمود الايراني و الحنكة في ادارة المعركة الدفاعية ، يبدو ان 24 تشرين 2 نوفمبر 2014 سيكون تاريخا مفصليا في المواجهة قد يوقع فيه اتفاق لحل القضية يضمن لايران حقوقها النووية ،لا بل ان هناك مؤشرات جدية كثيرة تكاد تؤكد بان توقيع الاتفاق بين ايران و الدول (5+1) بات امرا حتميا لا مفر منه لان الغرب بالقيادة الاميركية بات على قناعة بان معالجة هذا الشأن خارج المسار التفاوضي السلمي امر غير متاح و ان التأخير سيفاقم الخسائر الغربية ، خاصة و انه جرب البديل و فشل و هنا نذكر ببعض المحطات :

- عجز الغرب عن استعمال القوة لتدمير المنشآت النووية الايرانية بالطريقة التي تعاملت اسرائيل بها مع المفاعل النووي العراقي حيث دمرت المفاعل في دقائق و انتهى الامر من غير اي رد فعل من احد حتى و لو بكلمة استنكار . اما في الحالة الايرانية فان ايران امتلكت القدرة على الرد بشكل مؤلم اكثر مما يتوقع من يفكر بالاعتداء عليها و لهذا يمتنع اصلا عن المجازفة .

- فشل سياسة العقوبات التي حولتها ايران الى فرصة و ارتقت بها في سلم تحقيق الانجازات الوطنية على اكثر من صعيد حتى اتسعت دائرة الاكتفاء الذاتي لتشمل اكثر من 85 % من احتياجاتها و في بعض التقديرات يقال انها تشمل 90% .

- لكن الاهم و الاخطر برأينا هو فشل الحرب الكونية التي شنت على محور المقاومة و اتخذت قلعته الوسطى سورية ميدانا لها ، فالعدوان على سورية فشل في حربه الاولى تحت عنوان حرب الاسقاط ، و بدا فشله سريعا كما يبدو في الصيغة الثانية من الحرب التي لجأ اليها بعد تيقنه من فشل الاولى . لقد انقلبت اميركا الى حرب الاستنزاف و هولت بها و بطول مدتها لترهب سورية و حلفائها في المنطقة و تحملهم على التسليم لها بما تريد ، لكن سورية و معها محور المقاومة بكل مكوناته ، استوعبت الامر و واجهت حرب الاستنزاف باستراتيجية مضادة قادرة على اجهاضها ، استراتيجية لم تمض اشهر اربعة على العمل بها حتى حققت النتائج الهامة التي فهمتها اميركا و ادركت عبرها بان حرب الاستنزاف في طريقها الى الفشل باسرع مما تتوقع .

نتيجة لذلك بات الغرب بالقيادة الامريكية امام احد خيارين :اما اعلان العجز و الدخول في مرحلة تآكل العقوبات خاصة مع المتغيرات الدولية التي حرمت اميركا من الاستئثار و التحكم بقرارات مجلس الامن بعد الصعود الروسي على المسرح الدولي مدعوما بالصين و دول البريكس ،معطوف على متغيرات اقليمية انبثقت من فشل اميركا في تحقيق اهداف حربها ضد محور المقاومة ، او القبول بالحل السلمي والاقرار لايران بحقوقها النووية السلمية و الاكتفاء بنصر معنوي شكلي هو التزام ايراني علني بعدم الرغبة او السعي الى امتلاك السلاح لنووي .

و بين الامرين نرى من المنطقي ان تلجأ اميركا الى الخيار الثاني الذي يحقق لايران ايضا معظم ما تريد او ارادت اصلا من تأسيس هذا الملف ، و بالتالي نستطيع القول بان الوصول الى اتفاق حول الملف هو النتيجة المنطقية للمعادلات و التوزانات الدولية و الاقليمية و للوضعية الايرانية و لمحور المقاومة .

و مع هذا ينبغي الانتباه الى ان السياسة الدولية لا يحكمها المنطق دائما ، بل ان المصالح الخفية غير المبررة و النزعات الكيدية غير المفسرة ، قد تكون في احيان كثيرة هي الموجه في المسائل المطروحة ، و في المسألة المعروضة نجد ان اميركا قد تلعب كعادتها سياسة ازدواجية و تستعمل المتضررين الظاهرين من الحل و تدفعهم للقيام بما يوحي بالعرقلة من اجل الحصول على اثمان جانبية او اساسية .

و هنا تبدو اسرائيل والسعودية و غيرهما من الناصبين العداء لايران ادوات قد يكون لهم دور في سياسة رفع الثمن . حيث انهم في الاصل لن يريحهم ان تقفل ايران ملفا بهذه الخطورة و تتفرغ لمعالجة مسائل هامة اخرى تمس بمصالحهم و ترى اميركا ان الاصغاء اليهم سيكون في مصلحة اهدافها الاستراتيجية دون ان تفرط بالاتفاق .

و في هذا نذكر بان اميركا هي صاحبة القرار اما الاخرون فهم ادوات بيدها فاذا كانت اميركا قد توصلت كما نعتقد لقرار استراتيجي بالتوقيع على الاتفاق فان صراخ الادوات لا يثنيها لكنها قد تستعمل الصراخ من اجل رفع الثمن فقط و لهذا فاننا نبقى على ترجيح الوصول الى حل لان مصالح اميركا الاستراتيجية تفرض ذلك . و هنا سيكون السؤال الاكبر عن تداعيات التوقيع ان حصل ؟

قد يستعيد البعض ما كان يقال بان الملف النووي ملف قائم بذاته ، فان انجز يقفل هو دونما تأثير على ملفات اخرى ، لكننا نرى ان هذا القول فيه من التبسيط و المثالية ما يجعله بعيدا عن الواقع العملي ،و ما يدفعنا الى القول بان حل الشأن النووي الايراني سيرسم مشهدا فيه احتمالين :

- الاول استخدام اميركا الرافضين للحل و في طليعتهم اسرائيل و السعودية ، و دفعهم للمشاغبة و ممارسة "ضغوط ما " لتقوم اميركا ب"استرضائهما" ببعض السياسات و المواقف الاستعراضية او التعويضية التي تخدم استراتيجيتها اصلا و ترفع ثمن الموافقة فيكون لاسرائيل مزيد من المساعدات العسكرية الاميركية و غض النظر عن الفظاعات الاسرائيلية في فلسطين خاصة في مسألة القدس والاستيطان، ما يعني مزيدا من اجراءات تصفية القضية الفلسطنية و هدر حقوق الفلسطنيين ، اما السعودية فقد تستعمل للمطالبة بتعويض استراتيجي ما في لبنان و اليمن فضلا عن مزيد من العدوانية في الشأن السوري و البحريني . و هذا ما يؤدي الى خدمة حرب الاستنزاف التي تديرها اميركا .

- الثاني تسليم دولي و اقليمي بالاتفاق و قناعة اميركية بوجوب السعي الى حل سلمي لمشاكل المنطقة انطلاقا منه ، عبر تهيئة شروط التفاوض المتوازن ، و ستكون القضية السورية في طليعة ذلك لهذا بدأ حديث ما عن وجوب العودة الى مؤتمر جنيف في صيغة جديدة للبحث عن حل لتلك الازمة ، حلا لا يشبه ما ارادته اميركا و ادوات العدوان الاقليميين ، و لا يكون فيه شيء مما شن العدوان من اجله ، لان مؤتمر جنيف الجديد او اي حل سلمي ان حصل سيكون نتيجة لانتصارات محور المقاومة في الميدان و في قاعات التفاوض .

و سواء كان هذا او ذاك فاننا نرى ان الوصول الى حل للملف النووي الايراني سيشكل انتصارا لمحور المقاومة ، انتصار يفتح الباب امام مرحلة جديدة في العلاقات الدولية و الاقليمية و ينطلق منه لتحقيق انتصارات جديدة في المواجهة في طليعتها الميدان السوري .