تبدو الأمور في زمن العولمة الأميركية مضحكة أحياناً، ومفجعة أحياناً أخرى إذ سعت الولايات المتحدة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في عام 1991 إلى فرض نهجها في الهيمنة، والقيم الثقافية، والعادات، ولم تَعُد تقبل بالطرق التقليدية التي اتبعتها للهيمنة- أي من خلال شخصيات تحمل صفة الوطنية، ولكنها ترتبط بالمشروع الأميركي- الغربي، وهو ما يطبع المرحلة ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية إلى انهيار جدار برلين.

المرحلة الجديدة من العولمة، والهيمنة بدأت ترتبط بأسماء آتية من وراء المحيطات تحمل جنسيات هذا البلد- أو ذاك لتتسلم السلطة في بلدان عديدة تحت غطاء الثورات الملونة- والناعمة، أو غطاء مكافحة الإرهاب، ففي أفغانستان مثلاً عمل الرئيس حامد كرازاي سابقاً موظفاً في إحدى الشركات الأميركية – ليصبح لاحقاً رئيساً لأفغانستان بجنسيته الأميركية، والهدف بالطبع تنفيذ، وتسهيل المصالح الأميركية باعتباره مواطناً أميركياً قبل أن يكون أفغانياً، ومناسبة الحديث عن هذه القضية هو تعيين ثلاثة وزراء أجانب في الحكومة الأوكرانية الجديدة، إذ تحدثت وسائل الإعلام الروسية عن تعيين: ناتاليا ياريسكو وزيرة للمالية التي تحمل الجنسية الأميركية، وتُمثل صندوق استثمارات باسم (هوريزون كابيتال)، والليتواني آيفاراس إبراموفيتشوس وزيراً للاقتصاد والتجارة، وهو شريك في شركة استثمارات سويدية (غيست كابيتال)، والكساندرا كفيتا شفيللي التي كانت وزيرة للصحة والعمل والسياسة الاجتماعية في جورجيا لتصبح وزيرة للصحة في أوكرانيا (وكأنها وزيرة متنقلة من بلد لآخر)، وإضافة للثلاثة تم تعيين الجورجية (إيكا زغولادزة) التي شغلت سابقاً منصب نائب وزير الداخلية الجورجي، لتصبح نائباً لوزير الداخلية في أوكرانيا..

لتغطية هذا الأمر أصدر الرئيس الأوكراني بيوتر بوروشينكو مرسوماً بمنح المذكورين أعلاه جنسية أوكرانية، كما قرر البرلمان الأوكراني تعديل قوانين وطنية تمنح الحكومة الحق بالاستعانة بأجانب من أجل مصالح أوكرانيا.

هذا التطور اللافت في أوكرانيا جعل بعض المحللين يعلقون بالقول: (عار على شعب يبلغ تعداد سكانه 45 مليوناً لا يستطيع إنجاب ثلاثة أو أربعة وزراء أو لا يوجد من هو مؤهل لشغل هذه المناصب)، والحقيقة أن الأمر لا يرتبط بالعار، أو عدم وجود الكفاءات الوطنية الأوكرانية، إنما يرتبط بطغمة حاكمة استولت على السلطة في أوكرانيا بدعم أميركي- غربي بهدف نقل أوكرانيا إلى ضفة الناتو، ومصالح الغرب، والشركات المتعددة الجنسيات، وهو ما يحتاج إلى وزراء منتمين للمشروع الأميركي- الغربي حتى بالجنسية ليتمكن هذا الغرب من حصار روسيا، ومنعها عن مجالها الحيوي- والتاريخي- والثقافي عبر مثل هذه الأدوات...

لو أخذنا هذا النموذج، وطبقناه على من سموا أنفسهم (معارضة سورية) سواء باسم (الائتلاف)، أو قبله (المجلس اللاوطني) لوجدنا نماذج مختلفة لشخصيات لم ترَ سورية منذ عقود من الزمن، وتحمل جنسيات بلدان مختلفة (أميركا، فرنسا، بريطانيا السويد، السعودية، تركيا، قطر.. الخ) وكان المخطط لهؤلاء أن يتسلموا السلطة في سورية لينقلوها من ضفتها الوطنية، المقاومة، التقدمية، إلى ضفة تابعة، خانعة تقبل بالإملاءات وإلى بلد ضعيف تُديره المصالح الغربية، والأميركية، وهي التي تُعين وزراءه، ونوابه، وتخرقه من أوله إلى آخره..

النموذج المتعدد الجنسيات نجده في المشروع الصهيوني الذي يحمل من الجنسيات ما لا يحُصى، ولا يربطه بالأرض التي يحتلها، ويتوسع بها، ويقتل سكانها الأصليين سوى شبكة المصالح المالية، والاقتصادية بأميركا- والغرب وعقيدة إيديولوجية متطرفة تنفي الآخر، وتحتقره، وصولاً إلى مشروع إعلان الدولة اليهودية الخالصة، وهي نموذج فاشي- عنصري يشبه إلى حد بعيد النموذج الأوكراني الجديد الذي يستند كذلك إلى نظرة فاشية يمينية متطرفة.

أما النموذج الفاشي الآخر الذي صنعته أميركا والغرب فهو داعش الذي يضم جنسيات من أكثر من ثمانين دولة في العالم تجمعهم عقيدة القتل، والتوحش، والإجرام، وجيء بهم إلى سورية والعراق من أجل تدمير الهوية، والتراث، والحضارة، والتاريخ، لأن مجرد وجود شعوب تنتمي إلى حضارات، وجذور، وثقافة، وانتماء هي قضية مستهدفة من هذه القوى المتعددة الجنسيات التي تستخدم كأدوات للهيمنة- والسيطرة على ثروات، ومقدرات الشعوب، وتدمير حضاراتها، وهي قوى تختلف تسمياتها وطرق استخدامها حسب البلد، والثقافة، والهدف المطلوب...

إن التمسك باللغة، والثقافة، والحضارة لدى شعبنا، والشعوب الأخرى هي مسألة مركزية وأساسية في زمن العولمة، وهذا التمسك لا يعني مطلقاً عدم الانفتاح على الحضارات الأخرى، والتجارب العديدة في العالم، ولكن الانفتاح لا يعني مطلقاً التخلي عن اللغة والثقافة الأم بحجة العصرنة- خوفاً من أن نفقد الهوية- والأصالة- والجذور، وهي قضية مركزية- وأساسية في المشروع النهضوي السوري القادم.

إن مناسبة الحديث عن هذا الأمر تأتي في هذا الوقت بالذات في ضوء تطلع الشعب السوري إلى مستقبل أفضل يقوم على ثقافة متجذرة، وانتماء وطني برهن عليه هذا الشعب العظيم من خلال تضحياته الكبيرة، وتحمله، وصبره، وآلامه، ودموعه، ولكنه أيضاً مستقبل لن يقوم على أوهام بنتها (معارضة!!) متعددة الجنسيات أوتي بها من كل أصقاع الأرض، ومدعومة بقتلة، ومجرمين متعددي الجنسيات، بل على مستقبل وطني يشبه تاريخنا، ويشبه أبطالنا، ويشبه قصصنا، ويشبه آثار أجدادنا، والأهم أن يشبه حبنا- وتعلقنا بسورية التي ستبقى أيقونة في البطولة والأصالة، والمعاصرة...