تعمل سلطات الاحتلال على تهويد القدس المحتلة ضمن مخطط متكامل يستهدف مكونات المدينة بأهلها وأرضها ومقدساتها. ويمكن رسم المشهد المقدسي في ظل الاحتلال ضمن عنوانين الأول هو التهويد الديني والثقافي والآخر هو التهويد الديموغرافي.

التهويد الديني والثقافي:

المسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية والمسيحية: يركز الاحتلال بشكل خاص على المسجد الأقصى انسجاماً مع رواياته المزعومة حول «المعبد». وتتركز مساعي الاحتلال في السنوات الأخيرة على تقسيم الأقصى زمنياً على غرار المسجد الإبراهيمي في الخليل، بتخصيص أوقات للمسلمين وأخرى لليهود. وتقتحم جماعات المستوطنين ومجموعات من جنود الاحتلال المسجد الأقصى بشكل شبه يومي فيما يحاول عدد من النواب في الكنيست، ولا سيما من حزبي الليكود والبيت اليهودي، تشريع الاقتحامات وتأمين صلاة اليهود في الأقصى. وتتعرض المقدسات الإسلامية والمسيحية للاعتداءات، لا سيما الكنائس والجوامع والمقابر وجدران الأديرة حيث يخط المستوطنون عبارات مسيئة للإسلام والمسيحية من دون أن تبذل سلطات الاحتلال جهوداً لردعهم.

تهويد المعالم والأسماء: تحرص سلطات الاحتلال على تهويد وجه القدس العربي وقد عملت على طمس الأسماء العربية وتهويدها ومن ذلك تغيير أسماء بوابات القدس التاريخية كباب الحديد الذي أطلقت عليه اسم شاغر هحداش وباب الخليل شاغر يافو وغير ذلك.

التهويد الديموغرافي:

يندرج تحت هذا العنوان العديد من الممارسات القهرية التي يسعى الاحتلال من خلالها إلى تحقيق غالبية يهودية في القدس بشكل عام وزيادة عدد اليهود في القسم الشرقي من المدينة مع حصر نسبة العرب ضمن حدود 20 في المئة من مجموع سكان القدس. ويمكن إيجاز ممارسات الاحتلال على هذا الصعيد ضمن النقاط الآتية:

الاستيطان: تشكل المستوطنات الوسيلة الرئيسية التي يعتمدها الاحتلال لزيادة عدد اليهود في شرق القدس من خلال تأمين الوجود اليهودي في هذا الشطر من المدينة بين الأحياء العربية وكسر التواصل الجغرافي بين القدس ومناطق الضفة الغربية. وتستمر حركة الاستيطان بشكل محموم من دون أي اعتبار لحقوق الفلسطينيين أو الاعتراضات والانتقادات التي تتوالى من معظم عواصم العالم.

سحب بطاقات الإقامة من المقدسيين: يحمل المقدسيون بطاقات زرقاء يصنفون بموجبها على أنهم «مقيمون» وليس «مواطنين» وقد بلغ عدد البطاقات المسحوبة بين عامي 1967 و2013 ما يقارب 14.306، ما يضع هؤلاء في خانة التشرد والضياع.

هدم المنازل: فقط 14 في المئة من مساحة شرق القدس مخططة للبناء الفلسطيني، وتتبع «إسرائيل» سياسة متشددة في منح المقدسيين رخصاً للبناء. وفي مقابل ذلك تعمل على هدم المنازل والمنشآت التي بنيت بحجة غياب الترخيص. وقد هدمت «إسرائيل» منذ عام 1967 ما يزيد على 1700 منزلا وشردت بذلك حوالى 8382 فلسطينياً. وخلاصة القول هنا إن «إسرائيل» تحرم الفلسطينيين من رخص البناء ثم توجه إليهم التهم بأنهم يبنون خلافاً للقانون.

الجدار العازل: أنشأت «إسرائيل» الجدار العازل حول القدس وترافق ذلك مع نصب الحواجز وإقامة البوابات الفاصلة لعزل القدس عن الضفة الغربية وإضعاف البنية الاقتصادية والاجتماعية للأحياء المقدسية التي أصبحت على جانب الضفة الغربية من الجدار. وقد عزل الجدار ما يقارب 100 ألف مقدسي من أحياء رأس خميس ورأس شحادة وضاحية السلام ومخيم شعفاط وكفر عقب وسميراميس حيث يعانون الإهمال.

الظروف الاقتصادية والاجتماعية: تضيق سلطات الاحتلال على المقدسيين بصورة كبيرة من حيث فرض الضرائب وضرب القطاعات الاقتصادية المختلفة. وقد تجاوزت نسبة الفقر في شرق القدس 75 في المئة، فيما يعيش حوالى 83 في المئة من الأطفال تحت خط الفقر. علماً بأن القدس تكاد تفقد دورها التاريخي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي كعاصمة لفلسطين، وذلك بعد إحكام الحصار المتصاعد حولها.

أما بالنسبة إلى مشروع القانون العنصري الذي أقرته الحكومة «الإسرائيلية» بالأمس فقد أثار ردود فعل وانقسامات واسعة داخل الحكومة «الإسرائيلية» والكنيست والرأي العام الصهيوني فضلاً عن دول كثيرة انتقدت هذا المشروع من ضمنها دول أوروبية وأميركية.

وبموجب هذا المشروع المطروح الآن أمام الكنيست – بعد إقراره من الحكومة تتكرس بشكل كامل يهودية دولة «إسرائيل» ولا يتمتع بالحقوق القومية في «إسرائيل» سوى الشعب اليهودي، ما يجعل دولة الكيان الغاصب دولة عنصرية «صافية» من دون أي تحفظ ومن دون ورقة توت، ما يسقط نهائياً «المساواة» الوهمية أو اللفظية بين سكان الكيان والتي كانت تتستر بها الحركة الصهيونية، ما يفرز السكان بوتيرة أسرع ليقوم على أساس ذلك كله كيان عنصري بكل معنى الكلمة يعلن نفسه بكل وقاحة وكأننا نعيش في ظل الأفكار النازية المتطرفة. وهذا التطور العنصري يجعل من الشعب الفلسطيني الواقع أصلاً تحت الاحتلال والقهر شعباً من الدرجة الثانية قانونياً كما كان الأمر في جنوب أفريقيا تحت حكم الآبارتيد أو العنصريين البيض. وإذا كانت أوضاع الشعب الفلسطيني وبخاصة في أراضي 1948 مظللة ببعض التمويه ما يترك مجالاً «لإسرائيل» للتبرؤ من تهمة العنصرية بصعوبة نظراً إلى التعامل الوحشي والتمييز العنصري الذي تمارسه قوات الجيش وأجهزة الأمن ضد الفلسطينيين، ولكن بعد اليوم وإذا لم تسقط حكومة نتنياهو المنقسمة على نفسها ويسقط معها مشروع القانون، فإن القانون المفترض سيطغى ويكشف عنصرية «إسرائيل» الكامنة ويحرج معظم الأطراف التي كانت حتى اللحظة تعتبر الكيان الصهيوني واحة للحرية والديمقراطية في الشرق.

وكما يبدو فإن بعض الوزراء والنواب والشخصيات الذين لم يقصرّوا أبداً في تعذيب الفلسطينيين ومحاصرتهم جاهروا بمعارضتهم للمشروع معتبرين أنه سيء جداً لسمعة «إسرائيل». حتى رئيس الكيان رؤفني ريفلين اعتبر أن هذا القانون يثير الشك بالمشروع الصهيوني ووثيقة الاستقلال ويضعف الطابع اليهودي لدولة «إسرائيل». وإذا أصر نتنياهو ومعه ليبرمان وآخرون على المضي في هذا المشروع الخطير فسيجدون بوجههم ليس رئيس الكيان فحسب، وإنما وزراء بارزون وشخصيات معروفة. لكن نتنياهو الذي يشده الحنين اليوم إلى جابوتنسكي يريد تحقيق ما لم يحققه كبار القادة الصهاينة من قبل، معتبراً أن الإنجازات التي حققها، وبخاصة استمرار المفاوضات إلى ما لا نهاية ومن دون أية نتيجة للفلسطينيين، تخوله ولوج الطريق المحفوفة بالمخاطر، متجاهلاً بالتأكيد موقف الشعب الفلسطيني ومعه شعوب عديدة رافضة للآبارتيد بطبعته الأصلية والجديدة. غير أن كل الدلائل تشير في المرحلة الحالية إلى أن الشعب الفلسطيني قد وصل إلى نقطة اللاعودة في مقاومة الخطوات الخطيرة التي يخطوها نتنياهو وإسقاطها بكل الوسائل المتاحة كما أُسقطت المناورات والضغوط الصهيونية في رحاب المسجد الأقصى.

فقد كانت «إسرائيل» ترغي وتزبد، تتوعد وتتهدد بالاعتقالات وإطلاق النار وسحل الأشخاص ومسح المنازل ولكن عندما جوبهت بالرفض الفلسطيني الصارم لإجراءاتها القمعية وبرز بوضوح إقدام الشباب على المرابطة في المقام الشريف، ومعهم أهل فلسطين كلها للتصدي بكل ما يملكون من قوة للإرهاب الصهيوني، خشيت «إسرائيل» من تصاعد المقاومة والتفاف الجماهير العربية والإسلامية والصديقة حول الأقصى، فبدأ قادتها يحذرون فجأة من التصعيد ويدعون إلى ضبط النفس وحتى كبح جماح المتطرفين والسماح للمصلين العرب ومن كل الأعمار بدخول رحاب المسجد، وكأن العقل الصهيوني الدموي المتطرف الذي يدير شؤون الأمن بات يعلم أنه لم يعد بالإمكان التعامل مع الفلسطينيين في ما يخص قضية الأقصى بمنطق القوة وحدها، لا سيما بعد حربي غزة ولبنان. ومن هنا يبرز المأزق الكبير بوجه القادة الصهاينة الذين أخذواً عهداً على أنفسهم باقتحام الأقصى كي تكتمل المعادلة الشهيرة لا «إسرائيل من دون القدس، ولا قدس من دون المعبد،» فإذا اقتحموا المسجد واجهوا مقاومة لا يمكن التنبؤ بها خصوصاً أنه في المرة الأخيرة ظهر بوضوح استعداد المرابطين من رجال ونساء للتصدي بكل قوة ومهما كانت التضحيات مما يقيم الدنيا على الاحتلال ويحرك أجواء راضية وأخرى صامتة وأخرى متحفزة بما لا يخدم مصلحة الكيان ومن وراءه من دول كبرى تريد أسر الفلسطينيين والعرب في خانة المراوحة والمواقف اللفظية.

وإذا لم يقتحموا الأقصى وتساهلوا مع المصلين الفلسطينيين والمرابطين في رحابه فليس هناك من ضمانة أن الشعب الفلسطيني سيقف عند هذه الحدود، خصوصاً أن هذا الشعب الاصيل يتمسك بحقوقه الوطنية الكاملة ولا يرضى بديلاً من فلسطين بحدودها التاريخية.

هذا المأزق الجديد الذي أوقع نتنياهو نفسه فيه لن يكون من السهل حله نظراً إلى التناقض القائم بين كفتيه فقد كان قراره السابق هروباً إلى الأمام، فماذا يكون قراره غداً؟!