يدور الحديث بشكل جدي ومتراكم منذ بداية القرن الواحد والعشرين عن شكل النظام الدولي الجديد (أحادي القطب، متعدد الاقطاب، ..) خاصة في ظل بروز أكثر من مؤشر في ميزان العلاقات الدولية بين الدول، لا يمكن فهمها الاّ بضرورة فهم التغيرات الجيوسياسية والجيوغرافية لطبيعة القوة بين الاطراف الدولية وغير الدولية.
ان فهم هذه التغيرات بملاحظة سيرورة خروج الأمور عن سيطرة الحكومات (الاضطرابات في ليبيا، اليمن، سوريا، ..) يوضح اكثر فاكثر دور اللاعب الخفي في المستوى الادنى من العلاقات بين الدول. وهنا يأتي تشظي السلطة والكيانات غير الدولية، والذي يمكن أن يتضمن: التدفق المالي الذي يفوق موازنات العديد من الحكومات، الإرهاب، الإرهاب الإلكتروني، التغير المناخي، والأوبئة الخ.
ان مثل هكذا متغير لم يعد دوره مقتصراً على تشريد آليات التوازن في النظام الدولي عن مكانها المعتاد، بل يبدو انه المحرك الاساس لكافة التغيرات المحيطة بهذا النظام، وهذا ما يظهر من خلال تحرك الجماعات غير المنضبطة في دول عديدة من العالم وسيطرتها على المقدرات، الامر الذي من شأنه الاعتقاد ان بعض مفاهيمنا التقليدية بشأن مقاربة العلاقات الدولية لم تعد صالحة خصوصاً لطريقة التعامل مع الاوضاع في الشرق الأوسط، حيث تمركز الجماعات المسلحة.
ولذلك، واذا ما نظرت إلى توزيع القوة في القرن الحادي والعشرين، فان الامور مختلفة جداً عما ورد في الدراسات الدولية التي قاربت هذا الموضوع.
حقيقة الواقع تدلنا ان النظرية القائلة بان السياسة تؤثر في الاقتصاد ماثلة مثولاً نظرياً ليس الاّ، لأن الاطر السياسية للحكم وبالتالي القرار السياسي يتحكم به اوليات الصراع والمصالح، ولعل من ابرز هذه الاوليات هي قدرة الدولة الاقوى على تسييد قصتها وروايتها، أي لم تعد القوة العظمى، فقط، هي الدولة التي ينتصر سلاحها، ولا الدولة التي تتبوأ المركز الاول في النظام الدولي اقتصادياً، ولكن في عصر المعلومات وانفتاح حدود الدول تتوزع القوة على نحو فوضوي، وبالتالي التأثير الفعال يتمثّل في تسخير السياسة والاقتصاد في خدمة قوة "البطش" على اساس "شريعة الغاب" وبالتالي تتكامل الأبعاد الثلاثية للقوة: الجيش، الاقتصاد، والقوة الصلبة غير المنضبطة وبالجمع بينها يتحقق فهم استراتيجية "الاستكبار العالمي".
بيد ان الانخفاض الاستثنائي لتكلفة عمليات الحوسبة والاتصالات والتي نتجت عن ثورة المعلومات الحالية، وتأثيرها على توزيع القوة لجهة توزيعها إلى أطراف من غير الدول بعدما كانت في السابق تتحكم فيها الدول الغربية، هو ما مكن أساساً الأطراف من غير الدول والأفراد لكي تفعل أشياء كانت من قبل تقتصر على الحكومات أو المؤسسات الكبرى، بحسب جوزيف ناي هو أحد الأكاديميين المرموقين والمؤثرين في العلاقات الدولية والسياسة الخارجية الأميركية.
لكن على المتابع ان لا يغفل ان اميركا أدت دوراً أساس في صنع هذه التغيرات، فهي التي أصرت على أنه ينبغي ان يكون القرن الواحد والعشرين أميركياً ، واستخدمت الادوات غير المشروعة للقيام لذلك، منها انتاج جماعات مسلحة في أكثر من بقعة في عدد من الدول في المنطقة العربية لتغيير الانظمة القائمة ، بهدف خرق سيادة هذه الدول وتشتيت قواها السيادية على نحو تقسيم المنطقة من جديد لخدمة مشروع الامبريالية الصهيونية مستقبلاً.
الا ان مردود هذه السياسة، كان وبحسب المنتوج القائم، يبدو مختلفاً عن التصورات الاميركية، وعلى اساس ذلك يمكن فهم انكفاء الدور الأميركي المباشر عن عدد من الملفات الدولية وتردد إدارة باراك أوباما في التعامل مع الملفات الساخنة المتشعبة في المنطقة (مصر مثلاً)، والاتجاه الى سياسة "كسب الحلفاء" واحدى الامثلة على ذلك الاندفاع الاميركي غير المسبوق للاتفاق مع ايران حول النووي، كما فعل الرئيس ريتشارد نيكسون في العلاقة مع الصين في العام 1972، وكما فعل الأميركيون في غير مكان، بخاصة مع مصر بعد حرب "تشرين" لكسب حلفاء روسيا.
وحتى معركة "كسب الحلفاء" يبدو أن اميركا لن تكسبها، خصوصاً في ظل غوص الاخيرة في كثير من الساحات والازمات الدولية مما أدى الى استفزاز الحلفاء والاعداء على حد سواء ومنهم الحليف الاوروبي وأصبحت الارتباطات الاميركية تشكل عبئاً كبيراً، وباتت الولايات المتحدة أشبه باسبانيا وبريطانيا (الدولتان الاستعماريتان السابقتان في اواخر عهدهما بفعل ما أطلق عليه الباحث الاميركي بول كينيدي بـ "التوسع الامبراطوري المفرط".
لكنني في ظل ما ورد أعلاه، أتساءل لماذا نعتقد دائماً ان الخطأ الاميركي باعتقادنا هو في مجال الشك، هل لأن مبرمجي سياستها لا يخطئون؟، فاذا كان كذلك أظن أنه من المفيد اعادة النظر في هذا الاعتقاد. لعل من أبرز اخطائها انها انتجت مسببات الصراع والنزاع (القاعدة في الشرق الاوسط) وأرهقت نفسها بذلك، والان تفتش عن حلفاء لها يعاونوها في اتقاء شر "القاعدة"، في مقابل تنازلات من هنا وهناك (النووي الايراني/اوكرانيا/هونغ كونغ)، لكن ايران أو روسيا أو الصين (الخ) ما عاد يهمهم الامر فالمعركة قائمة في محاور عدة، والكسب ليس بالتفاوض انما بالميدان.
* - أعد اطروحة دكتوراه في العلاقات الدولية والدبلوماسية حول موضوع "العلاقات اليابانية الاميركية بعد الحرب العالمية الثانية".
- صحفي لبناني.