ما من امر يبرر الارهاب الذي استهدف مقرا لوسيلة اعلامية في باريس. ما من امر الا يعزز الشعور بالالم ويبرر المرارة وهما يجاوران اليأس، من سيل التصريحات والتظاهرات المنددة بالجريمة، واعتبار ما حصل كأنه امر طارىء، وكأن نذره لم تلح منذ احداث افغانستان وصولا الى راهن الموت الوحشي الذي يجتاح العالم برمته.

لماذا يحاول العالم الايحاء بانه اكتشف فجأة هذا العنف المُرعب؟

السؤال يزداد الحاحا مع التغاضي والاستنكاف المستمرين عن التصدي لارهاب اسقط حدود دول، وبدأ يطرق ابوابا جديدة، كأن القابعين وراءها يعتقدون انهم في منأى عن هذا الاعصار.

الفاعلون يسلكون حتما مسالك "صراع الحضارات" وليس تفاعلها. وهم يُقدّمون آحادية مجتمعهم الذي يتخيلونه على قيم تفاعل الحضارات وثقافتها ومصلحة الانسان في معناها الكوني. الامر الثابت عند هؤلاء ان العقل الراديكالي هو الطاغي على رؤيتهم لواقع نهوض الدول وتقدمها على المستويات كلها.

عمليا لا يزال بين يدنا امر واحد لمكافحة "الوحش" الذي يقاتل بإسم الدين، هو التعاون الدولي الجاد والمسؤول على قاعدة واحدة تقول: ان العالم برمته بات في مركب واحد. للنجاة ينبغي العمل جميعا لمواجهة الانواء التي تعصف به. عكس ذلك يعني اننا نواجه مصيرا محتوما بالفشل، وموسوما بالقتل والذبح والتنافر ورفض كل ما هو آخر ومختلف.

ما يحدث حاليا في عالمنا العربي، وما وقع في فرنسا اخيرا، له نتيجة واحدة: تشويه مضطرد للدين والحق الانساني، واعتداء واضح على كل اشكال العيش المشترك تحت سقف التنوع الديني والثقافي والحضاري. هذه معان يجهد هؤلاء الارهابيون ومَن يدعمهم بمعرفة او بغير معرفة، في تبديدها ودفنها لاهداف تصب مباشرة في مصلحة الاستراتيجيا الاسرائيلية، وفي مقدمها تبرير "يهودية" الدولة العبرية وتصفية القضية الفلسطينية وتفتيت دول المنطقة وفرزها واعادة تكوينها مجددا.

لذلك كله، ما لم يتحرك العالم مجتمعا وفق خطة عملية جدية، تتضمن حلولا في السياسة والامن والثقافة والرعاية الاجتماعية والاقتصادية، نبقى نعيش في عين عاصفة القتل والسبي والذبح.

كانت الحجج بعد العملية الارهابية التي استهدفت مركزا اعلاميا في باريس الشهر الماضي، ان اصحاب "اقلام غير مسؤولة" استغلوا مساحة الحريةً ليسيئوا الى قيم روحية لجزء كبير من هذا العالم، من دون مبرر سوى مس الديانات ورموزها، الا اذا كانت هناك اهداف اخرى غير معلنة. لكن في المقابل، هناك مسؤولية حول فشل المجتمع الدولي اولا في تعليم قيم التنوع الديني والثقافي، على الاقل للمجتمعات التي خرج منها مرتكبو الجرائم في فرنسا او اوستراليا او غيرهما، وايضا عدم وضع ضوابط لاستعمال الحرية عندما تُسْتغل او تُسْتثمر للاساءة او مس المقدسات من دون ادنى مبرر .

من الضروري جدا سحب الذرائع التي يُقدمها مَن يضربون باسم الاسلام ويؤسسون مجددا لـ"صراع الحضارات". وفي بلوغ هذا المستوى من العنف، يستحيل القفز فوق المسؤولية الرهيبة للذين يرعون الجماعات الارهابية ويغطونها ويعززون العقل الانغلاقي لها. كما يستحيل ايضا تخطي مسؤولية الدول التي لم تبادر الى الآن بالتنسيق في ما بينها لمواجهة جدية.

العالم يحترق وعلى الجميع مكافحة الحريق الذي سيخرج، في لحظة ما لا يقدرها احد، عن السيطرة ما لم تكن هناك رؤية دولية للمواجهة الشاملة. كل ادراك لما يحصل يقلل الاكلاف ويقصّر المسافة في الوصول الى المراد، وهو حوار الحضارات بدلا من الصراع في ما بينها، والتوجيه الديني السليم، والتنمية الاجتماعية، وأمن يعزز الارضية السياسية للنهوض بدول حديثة ومتطورة.