أمس سأل إعلامي زميلاً له من الدرجة الدنياوعلى الهواءمباشرة إن كان يطمح الى منصب سياسي كنائب أو وزير مثلاً، فجاء جوابه فجّاً قاطعاً إذ إعتبر نفسه صاحب سلطة وحظوة أكبر وأقوى بكثير من أن يصبح سياسيّاً ولهذا معانٍ كبرى. هل في المسألة ضمور رجال السياسة وإنهيارات قيمهم أم تبجّح وتطاول ممجوج للعديدمن أهل الإعلام وماسكي الشاشات؟ الأمرين بالطبع، وقد بات مألوفاً أن يقابل الإعلاميون بعضهم بعضاً بشكلٍ منفّر للجمهورعلى الشاشات. ولربّما كان وصولصحافيين الى مناصب سياسية هو الحافز لمثل هذه المظاهر، لكن ما هو غيرمألوف أن نسمع كلاماً مماثلاً ولأكثر من مرّة من إعلاميين ما زالوا فوق درجات السلم الأولى في الإعلام، يكرّمهم السياسيون ما أن يتخرجّوا من الجامعة شبه أميين في عالم الإعلام. يقدمون لهم الهدايا ويسترضونهم ويحابونهم، هبوطاً نحو النجومية والتنجيم والسيارات الفارهة والدارات المحشوة بكلّ ما هو "ثقيل". فهل هانت السلطة والحكم والإعلام الى هذا الحدّ أم أن تراجعاً في سلوك أهل السياسة هو الذي أوصلنا الى هنا، أم أنّ الناس قد أداروا ظهورهم للسياسة، في لبنان وغير لبنان؟ هل تنقرض السلطات في عصر رفعت فيه الأغطية عن الجميع؟

لست باحثاً عن جواب هنا. لقد قفز الإعلامي في وظيفته، مع أنّه يسجّل قانوناً بصفة أجير في بطاقة الضمان الإجتماعي، من مهمات عكس الوقائع ونقل الأخبار ومقابلة الآخرين بأمانة وأخلاقية وإحترام الى مايتجاوز سلطات أهل القرار والتشريع والحكم ويتجاوز أيضاً حقوق المشاهد. وهنا أذكّر بأن الكلام على الاعلام في لبنان مثلاً، ربّما كان يعني بشكل ما الكلام عن الصحف وخصوصاً في التلفزيون والاذاعة. وهذه النظرةترجعنا كمسألة وطنيةأكثر من ضرورية في تحديد رؤى وطرائق حياة الناس، إلى تاريخ محدّد في لبنان عندما خُرقت في 23 آب - أغسطس 1985 النصوص القانونية في لبنان التي كانت تحصر حقوق البث التلفزيوني بتلفزيون لبنان الرسمي.بدءاً من ذلك التاريخ، خرج لبنان فعلياً من خانة الوطن الى خانة الساحة بكلّ معانيها أو اصبح ساحةً إعلاميّة فعلية رخوة فوق الألسن، أو جزءاً من الحريّة والديمقراطية في قلب الإعلام السياسي الفوضوي العالمي الذي لا يمكننا أن نلمسه وله آثاره في لبنان كما في أعرق الدول الديمقراطية وقد فتح نوافذه بتطاول نحو المجتمعات المحافظة أو المغلقة. وأصبحت امكانيات التحديد شاقّة وغير سهلة إن لم تكن مستحيلة كما هي اليوم. وفق هذا المنظور، نفهم كيف سقطت القوانين والمحاولات الرسمية التي جهدت وتجهد وتحاور وستبقى تتحاور لتنظيم الاعلام المرئي والمسموع في لبنان، بنداً أساسيّاً في تسهيل عملية الوفاق الوطني اللبناني وتنظيمه. ونفهم بالتالي، وهو أمر طبيعي، كيف بات الاعلام ومعه التربية أعني البرامج التربوية والتعليمية في ظاهرة تدفق الجامعات والمعاهد التي لا تحصى، ملفّين أساسيين موضوعين بشكل دائم فوق طاولة القرار الوطني والعربي، وحيالهما العراقيل والتحديات والاستحالات التي يفرضها واقع العصر الاعلامي الراهن المستورد. ما هي هذه الحرية الفريدة؟

قد يكون الإعلام حرّاً جدّاً في لبنان وحريته من دون ألف ولام، وحفلات "التوك شو" التي يستغرق فيها الإعلاميون بسلطاتهم المتشظية الوهمية هو البند الأصعب والأكثر تعقيداً في البنود الموضوعة فوق طاولات الحوار، سواء أكان الحوار بين حزب الله والمستقبل أو بين التيار الوطني الحر والقوّات اللبنانية. هي ليست مسألة مستجدة في تاريخ لبنان، بل هي القضية الخلافية القديمة بل المزمنة التي تتورّم كثيراً في زمن التشققات والمتراكمات وتدفّق الأموال وشراء الذمموالشاشات والصور. لم يسبق أن كانت النظرة إلى الاعلام والإعلاميين واحدة قطعاً، إذ يحصره السياسيون بالاخباروالبرامج السياسية، وذلك في نظرة تقليديّة قديمة إلى مفهوم السياسة قبل انخراطها في تفاصيل وجزئيات حياة الناس الهابطة في الدنيا. إنّها السياسة النظرية الخطابية الجذّابة في شكلها الفصيح القوي أساساً، والذي جعل الناس أكثر ميلاً للهروب منها توخياً للبساطة في العيش والسلوك والتعبير. بهذا المعنى يبرز الكلام النقدي الحرّ في الإعلام اللبناني والعربي واجباً وطنياً يمكن تعميمه بل يمكن وضعه ورقة مفيدة فوق طاولات الحوار أينما نصبت. ويتجلّى هذا الكلام في نظرة الناس إلى منتجات الاعلام، بمنظار البرامج والأفلام التي تغزو منازلهم وثوابتهم وتهز كياناتهم وتشغلهم وتخيفهم وتؤنسهم، ناسين أيضاً طرائق التعبير المعتمدة وأساليبها في الإيصال.

لكننا لا ننسىالمعلنون وأصحاب الشركات الإعلانيّة المنتجة الكبرى في نظرتها إلى الاعلام لا من حيث الفعالية بل من زاوية عدد المشاهدين، والجذب، والإغراء، والمردود المالي، فلا يعلنون إلا بما يتناسب مع حاجات الناس وبما يتناقض مع عاداتهم وقيمهم في تركيز فاضح على الجنس. فالمعلنون هم سلطان الاعلام الأقوى الخفيّ الذي لا يرضيه سوى سهولة إيصال الرسالة، وبهدف المزيد من الأرباح ومضاعفة دورة الاستهلاك، مهما كانت الإثارة والنتائج سلبية وخطيرة.

وإذ ينظرالاختصاصيون إلى الاعلام من زاوية الاتصال والتواصل بين اللبنانيّين، وبينهم وبين محيطهم العربي والقومي، بهدف الانفتاح المتجدّد والحضاري، أو من زاوية تقريب لهجات ولغات التعبير في الاتصال، لا تنتهي الزوايا التي يتخبّط فيها نظر اللبنانيّين إلى الاعلام. يبدو الاعلام ببساطة كلية جبلاً شاهقاً لا يطوله البصر بشكل كامل ولا الحوارات. يراه المتسلّق أفضل مكاناً للمغامرة والتزلج، بينما ينظر إليه الحطّاب مخزناً للحطب والفحم والزراعة، وينظر اليه المهندس عائقاً يستلّ صخوره لبناء المدن الجميلة، ونعبر منه إلى الضفة الأخرى. ويراه الغني أجمل مكان لبناء قصوره وملاعبه. وهكذا لا يعود المهم كيف جاءت البذرة ومن أين ومَن أوصلها ومن زرعها وسقاها ورعاها، بل كيف يجب أن تموت الحبّة بالنسبة للمزارع كي تنمو نبتته المنتظرة، وتحيا لتزهر فيثمر وتنتج، والحقيقة خلاف ذلك بالنسبة في فلتان الاعلام وحجمه.

يضمّ الاعلام اللبناني هذه الرؤى والنظرات كلّها، يستغرق فيها الانسان فيمارسها ببساطة ومن دون جهد،فتسقط أو تتهدد مجمل المقولات الموروثة وغيرها، وتزول أيضاً الفواصل بين المهن والممارسات والواجبات، وتتبعثر السلطات كلّها بالنسبة لمقدّم برنامج يبعثر انتظاماً قائماً في وجهه أو يعيد تنظيمه.وفق هذا الإطار، يبدو القانون أو تحديثه أو إتّفاقيات الشرف ومسك الشاربين من الأطراف المتنازعة نوعاً آخر من الارتجال، في ظلّ اتّساع الخروق الوطنيةوغايات المقتنيات الاعلامية، وضرورات الانهيار في القوانين والمواثيق والاجتهادات التي تأتي نتيجة حتميّة لارتباط لبنان، هذا الحقل المتحرك، بالحقل العربيوالانساني.

مهما اختلفت وجهات النظر، في لبنان، حول الاعلام، ومهما اتّسعت الساحة اللبنانية، يمكن القول ان لبنان عرف أشكالاً أربعةً من الإعلام تتداخل كلُّها اليوم في فوضى غير معقولة لتعيد تشكيل تاريخه الإعلامي الطويل والمميز، وتتمثل، اصطلاحاً، في: اعلام الحروب، حروب الاعلام، سلام الاعلام، اعلام السلام.

من يرشدنا في أيّ زاويةٍ يقف الإعلام والإعلاميون والحواريون السياسيون اليوم؟ نحن جميعاً في خانة: حرية بدون الألف واللام...حرية هكذا عارية كما هي من دون أل التعريف في إعادة بناء الساحات وضمّها المستحيل الى وطن....إشتقنا إليه ونحن في حضنه

أستاذ مشرف في الإعلام السياسي، المعهد العالي للدكتوراه، لبنان