ليس مفاجئَا على الإطلاق دخول قائد فيلق القدس اللواء ​قاسم سليماني​ تكريت وضواحيها وقيادة المعركة على أرضها بوجه تنظيم داعش. فالمشهد يشي بالاحتراب حتّى النهاية، كما يكشف معنى وجود ​إيران​ كشريك استراتيجيّ منفصل عن الإطار الدوليّ في الحرب على الإرهابيين، وفي إرساء معادلات جديدة بوجه الأتراك والدول الخليجيّة في المنطقة. حتمًا ليس الدخول في حقيقته مفاجئًا، ذلك أنّ إيران لم تعد مجرّد قوّة لها إطارها التوظيفيّ المحدود، بل هي قوّة تمتاز بامتلاكها الأوراق الأساسيّة والجوهريّة بما يؤهّلها أن تكون قوّة لها مشيئتها في كلّ الرؤى المتداخلة من اليمن إلى سوريا مرورًا بالعراق ووصولاً إلى لبنان.

تتجسّد تلك المشيئة شيئًا فشيئًا بالميدان. وممّا يجدر ذكره في هذا الإطار بأنّ الميدان هو المدى الظاهريّ والفعليّ لحسم الصراع في المنطقة.

من هنا، إنّ المعركة التي يخوضها سليماني استراتيجيّة بعمقها التأثيريّ في المعارك ما بين العراق وسوريا ولبنان. ويخوضها في توقيت تحاول السعوديّة حشد الدول السنيّة من مصر إلى قطر وتركيّا، في جبهة واحدة ظاهرها إظهار الاعتدال السنيّ بتمييزه عن التشدّد السّائد، ولكنّ باطن الحشد مواجهة إيران التي غدت على الحدود مع السعوديّة من جهة اليمن وباب المندب، ومن جهة البحرين والعراق... يُظهر سليماني في هذه المواجهة قدرة إيران في التحكّم بكلّ الأوراق في لحظة الضياع السعوديّ بسبب تجويف المسعى من مضمونه وعدم استعداد مصر والإمارات السير بحلف نتائجه ليست مضمونة، ولأسباب أخرى متحرّرة من المال الخليجيّ، لأنّ التاريخ وبخاصّة تاريخ عبد الناصر في مصر نابض. والتوق إلى دور مصر المحوريّ يبقى أبعد من الارتهان السياسيّ للمال الخليجيّ.

إظهار القدرة الإيرانيّة بدورها في بعدها الاستراتيجيّ، وبخاصّة في دخولها المباشر المعركة في العراق تقويض حقيقيّ وموضوعيّ للدور التركيّ المتماهي بحقيقته مع المسعى الإسرائيليّ من منظور رئيس الحكومة الإسرائيليّة بنيامين نتانياهو السّاعي إلى ضرب الاتفاق الإيرانيّ-الدوليّ، وبتخصيص أكثر الاتفاق الإيرانيّ-الأميركيّ، سواء في خطابه الواضح في الوكالة اليهوديّة أو خطابه الاخر في الكونغرس الأميركيّ، والذي ظهر شديد الهجوم والعنف ضدّ إيران. لقد دخلوا المحور الخليجيّ، أي ما سمي تاريخيًّا بالخليج الفارسيّ، بصورة غير مباشرة وبخاصّة في اليمن مع الحوثيين، لكنّهم في العراق أمسوا على الأرض في موقع ميدانيّ استراتيجيّ رابط ما بين الخليج الفارسيّ والمحيط المشرقيّ، هذا بحقيقته تجسيد لموقع القوة، وهو بحقيقته سيعيد الاعتبار إلى المواقع التي تخلخلت الموازين فيها، وانسلخ المسيحيون منها، من الموصل إلى سهل نينوى، وبالتالي إلى الحسكة ومحيطها. إعادة الاعتبار تلك لن تكون بحدّ ذاتها محدودة في هذا الإطار بل حتمًا ستتوغّل في كلّ من سوريا ولبنان بإعادة الاعتبار للمكونات الأخرى في تطلعاتها إلى ذاتها وفي الوقت عينه في تطلعاتها إلى بعضها في إطار حواريّ واضح.

إنّ المعركة الإيرانية بقيادة قاسم سليماني بصورة مباشرة في العراق بوجه "داعش" في تكريت، مؤشّر للاتجاه نحو الحسم من سوريا إلى لبنان، وبخاصّة في لبنان على سلسلة جبال لبنان الشرقيّة وصولاً إلى القلمون والزبداني الملاصقة للبقاع الأوسط من خلال قرى كفرزبد قوسايا وسواها. لم يكن كلام الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله حول المعركة في الربيع عابرًا، بل هو استشرافٌ فعليّ لما ينتظرنا إسقاطًا للتغييرات الواضحة والمرتقبة في المنطقة كنتيجة للحرب على تنظيم "داعش" و"جبهة النصرة" ومعظم التكفيريين.

معظم السياسيين في لبنان من كلا المعسكرين التقليديين باتوا مدركين أنّ قواعد اللعبة تغيّرت بتغيير عناصرها ومعاييرها. هذا حتمًا سيقتضي وبحسب بعض الأوساط اختلاطًا للأوراق، بتغيير جذريّ للمعسكرين بنظرة كلّ واحد لذاتها ولواقع الصراع في المنطقة وتوظيفه في لبنان. بمعنى واضح إنّ المنطلقات التوظيفيّة للحرب في الساحات المجاورة لم تعد تتطابق مع المواصفات في الداخل اللبنانيّ، وبخاصّة مع مواصفات اللاعبين في فريق "14 آذار"، ذلك أنّ الحوار بين "حزب الله" و"تيار المستقبل"، والحوار بين "القوات اللبنانيّة" و"التيار الوطنيّ الحرّ"، أفرز تجميعًا سياسيًّا جديدًا قوامه جميع المتضررين من الحوارات وما يمكن أن يحدث من نتائج بدأت طلائعها تنكشف رويدًا رويدًا ولها ارتباطها بموقع إيران الميدانيّ والذي بدأ يتجسّد ميدانيًّا على الأرض في العراق وسيمتدّ أكثر فاكثر تحت العباءة الأميركيّة.

كثيرون في هذا الإطار يتساءلون، هل سيشهد الواقع اللبنانيّ حلحلة لبعض العناوين الجوهريّة كانتخاب رئيس للجمهوريّة وإقرار قانون للانتخابات؟ يميل المشهد العام، وباعتقاد بعض الأوساط والمصادر السياسيّة إلى الحسم الميداني على جبهة سلسلة جبال لبنان الشرقيّة والقلمون والداخل السوريّ، أكثر من الانتخابات الرئاسيّة، ذلك نّه يتقدّم عليه لكونه طارئًا وخطيرًا أكثر من الفراغ. وتشير بعض القراءات إلى أنّ الفراغ وإن عبّر عن تصدّع دستوريّ واضح في علاقة المؤسسات الدستوريّة والواقع السياسيّ بسبب الفجوات الهائلة في بنيتها، إلاّ أن هذا التصدّع لم ينعكس بالمطلق على واقع البلد، ولا حتّى على نوعيّة الهدوء في رحابه فيما بلدان أخرى تسللت إليها الأحداث فتمزّقت أحشاؤها بها. هذا في حقيقته، مدهش للعيان، وواضح في تجليّاته على الرغم من التداعيات الكبرى والهائلة في معنى الفراغ، والّذي لن يبتّ في أمره على الرغم من عدم صحتّه. تحقيق المعنى المراد لتلك الانتخابات بالشخصيّة القويّة تتحدّد من النتائج المرتقبة على الأرض من سلسلة جبال لبنان الشرقيّة إلى الداخل السوريّ ودور "حزب الله" في الحسم.

وتبقى في هذا السياق، بعض النقاشات حول آلية عمل الحكومة التي حسمت بعض الشيء بعودة مجلس الوزراء إلى الاجتماع.