أوساط كثيرة في الداخل اللبنانيّ تترقّب انعكاس دخول إيران المباشر في معركة تكريت في العراق بوجه "داعش" وبقيادة شخصيّة من اللواء قاسم سليماني المتواجد على الأرض. فالمعركة، وبتوصيف دقيق، جوهريّة وحاسمة لكل الأطراف المعنيّة بالمشرق العربيّ، تقطع الطريق على كل من يريد إمداد “داعش” وكل الحركات التكفيريّة بالمال والسلاح.

ستتولّد من تلك المعركة معارك حاسمة في الداخل السوريّ واللبنانيّ مع تلك الحركات التكفيريّة. فالمعركة في تكريت تواصليّة لحسم موقع الموصل ومنطقة نينوى، ومتى تمّ الحسم فسيمتدّ باتجاه سوريا لتطويق الحدود السوريّة-التركيّة، وفتح كوّة في الجدار السميك في إطلالة مباشرة على حلب والحسكة ودير الزور والرقّة والداخل السوريّ. المشهد الواضح خلف الآفاق، تطويق واضح لمخطّط تلك المنظمات التكفيريّة بإقامة إمارة إسلاميّة تجمع الموصل ونينوى بالداخل العراقيّ، وتطلّ منها على الداخل السوريّ وصولاً إلى المتوسّط أي إلى لبنان. ذلك أنّ منابع النفط باتت في حوزتها، وهي التي أوغلت في تدمير الحضارة المشرقيّة في متحف نينوى العظمى (وتلك تسمية قديمة). تلك الأسباب الموجبة استجمعت في الأدبيات الإيرانيّة بعمقها الدينيّ وإطارها السياسيّ وفعلها الأمنيّ وامتدادها الإقليميّ، وهي في حالة تفاوض مع الولايات المتحدة الأميركيّة، من أجل تطويق المسعى التكفيريّ المتفلّت من التوظيف الدوليّ الذي كان في عقله وجوفه، في إقامة تلك الإمارة والبدء بهجوم معاكس، الّذي يسعى إلى تأكيد ذلك التماهي الجديد برؤية الإدارة الأميركيّة برئاسة باراك أوباما في السياق التفاوضيّ معها، والتي (أي الإدارة) قد تعثّرت غير مرّة بسبب حراك المنظمات المتشدّدة في أميركا، بوجه تلك الإدارة وهم من دفعوا إلى اجتياح العراق سنة 2003، كما نظّموا وخطّطوا وضغطوا لضرب دمشق بعد مجزرة الغوطة سنة 2013، وتشاء أن تفرغ المشرق العربيّ من مكوّناته الأساسيّة وبخاصّة المكوّن المسيحيّ. يشي هذا الهجوم بسياقه التفاوضيّ أو قد يكون وبقراءة بعض الأوساط تفاوض حام، بخريطة جديدة امتدادًا لطاولتيّ جنيف ومونترو وقبل الرابع والعشرين من الشهر الجاري، حيث يقول بعض المتابعين بأنّها قد تتكرّس في هذا الشهر المذكور بتأكيد المشيئة الإيرانيّة الراسخة كشريكة رئيسيّة في التسوية المرتقبة بعد انكشاف غبار المعارك على الأرض في المثلّث العراقيّ-السوريّ-اللبنانيّ.

ولذلك، فإنّ تلك المعركة بمعانيها الكبرى، ستطلّ نحو الحدود اللبنانيّة-السوريّة، بمواجهة ضارية سيقودها الجيش اللبنانيّ و"حزب الله" من الجانب اللبنانيّ كما يقودها الحزب عينه إلى جانب الجيش السوريّ من الجانب السوريّ. أوساط لبنانيّة عارفة ومراقبة، قاربت ما يحدث في العراق بإطلالته نحو سوريا ولبنان بمنطق عقلانيّ ومجرّد وهادئ، ودعت معظم الأطياف السياسيّة اللبنانيّة على مختلف توجّهاتها إلى استنباط الرؤى والأبعاد بعيدًا عن كل اصطفاف جار. فالمعركة وجوديّة ومصيريّة، ولا تشبه أيّ معركة خيضت في هذا المدى. وأمام المعارك الوجوديّة يجدر بمعظم الفرقاء أن يقاربوا العناوين بتسليم كامل بمن يملك قدرة المواجهة على اعتبار أنّ تلك المنظّمات قد لفظت من بيئتها الطائفيّة والمذهبيّة. لا يعني التسليم، وبالقراءة عينها، الامّحاء السياسيّ، ذلك أنّ الشراكة السياسيّة بين المكوّنات اللبنانيّة تأبى ذلك، لكوننا نعيش في ديمقراطيّة تشاركيّة-توافقيّة. إلاّ أنّ خصوصيّة المعركة الوجوديّة تفرض هذا النمط المتعقلن خلوًّا من رهانات جوفاء، بعد أن بطلت وكانت بدورها قد فسدت. وغالب الظنّ أنّ السعوديّة كما إيران سلّمت بضرورة استقرار لبنان داخليًّا، بإظهار الاعتدال الطائفيّ سمة غالبة لتأكيد مسرى الحوار والمثابرة عليه، وتاليًا، الولوج إلى تسوية تؤكّد قيمة هذا الاستقرار بانتخاب رئيس للجمهوريّة وقيام حكومة جديدة.

الأوساط عينها وبقراءتها المتواصلة، تراهن على دور الميدان في الحسم استنادًا إلى تجارب عديدة مرّ بها التاريخ اللبنانيّ، بهذه الساحة التي عليها تراكمت ساحات أخرى، وتفاعلت سلبًا، وجعلت من هذا البلد الصغير محورًا لحروب على ارضه. فأمسى وكما كتب كريم بقرادوني في مؤلَّفه "السلام المفقود"، "شرق أوسط صغيرًا". الحسم الميدانيّ المنتظَر على الحدود اللبنانيّة-السوريّة وفي الداخل السوريّ، واستكمالاً لمعركة الحسم الميدانيّ في العراق، سيكون المقدّمة الفعليّة لتبويب التسوية الداخليّة. وتصف تلك الأوساط الجمود والركود وبخاصّة في الحوار المسيحيّ-المسيحيّ بالارتقاب الميدانيّ، المتداخل والموظّف في عمق الساحة اللبنانيّة.

وبناءً على معلومات ذات صلة، نصحت بعض تلك الأوساط الفرقاء المعنيين بعدم العودة إلى المراهنات الجوفاء الخالية من المعاني المنتمية إلى السياق المنطقيّ للأحداث، معتبرةً بأنّ ثمة اجماعًا بإطاره المباشر وغير المباشر للقضاء على الإرهاب التكفيريّ، لسبب وجيه وأساسيّ، وهو أنّه آخذ بالتصاعد، إذ لم يعد محصورًا بالشرق الأوسط بالأدوار المحدَّدة له في دائرته ومداه، بل اتسعت رقعته أيضًا ليهدّد الأمن العالميّ من أوروبا إلى أميركا. فأيّ رهان محدود الرؤية ومولَّف في إطار المصالح الضيّقة مصيره الفشل، وأسبابه أنّ المنطقة انفتحت على تغييرات جذريّة لا تستوي على أرائكها الألعاب الداخليّة، أو بالأحرى لا يمكن توظيفها عند معظم الفرقاء على الطريق اللبنانيّة، بل على العكس سيتمّ تقيّؤها ولفظها في مدى الخريطة الجديدة.

أمام واقعيّة هذا المشهد، لا بدّ من خلاصة ملحّة يلجأ إليها القارئ والمتابع في اصطفاف الأحداث، بل اصطفاف الخيارات الداخليّة في جوهر الحسم. أن تتجّه تلك المقاربات نحو رسم خريطة تسوويّة خاصّة بالواقع اللبنانيّ وفرادة خصوصيّته، بعدما اهتزّت وارتجّت بالإرهاصات المتداعية بشدّة فوق أرضه. وبوضوح أكثر، لا يزال لبنان بتكوينه الدقيق أرض تسويات، بل ممرًّا بقرار دوليّ-إقليميّ-عربيّ، وتوقيع وتنفيذ لبناني. ولكون الميدان يبقى المتحّكم بمواقع القوّة والضعف، بل المترجم لها في سياق المعركة التي فتحت في تكريت، ومنها إلى الموصل والحسكة... فإنّ مصدرًا سياسيًّا خلص إلى ثلاثة اعتبارات ضروريّة مختصّة بالحكومة اللبنانيّة وهي مؤلّفة من الأحزاب المتحاورة الآن، وهي التالية:

1- فتح حوار ضروريّ وملحّ، مع الجانب السوريّ والاتجاه معه إلى تنسيق عسكريّ-أمنيّ وميدانيّ لتطويق المنظمات التكفيريّة في أوكارها والانقضاض عليها.

2- تسريع المسارّات الحواريّة وبخاصّة بين المسيحيين، والاتجاه نحو تسوية جديّة، تعيد الاعتبار للدور المسيحيّ اللبنانيّ كوعاء حام لهم، وعلى اعتبار أنّ "تيار المستقبل" بحسب المصادر أقرّ بقوّة رئيس تكتّل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون، فلمَ لا يحسم هذا الجدل مسيحيًّا بصورة رسميّة، قبل أن يحسم على مستوى الميدان وتتجوّف الرهانات.

3- البلوغ إلى تسوية تتجسّد بانتخاب العماد عون رئيسًا للجمهوريّة وتعيد رئيس "تيّار المستقبل" سعد الحريري رئيسًا للحكومة، بإطار تسوويّ واضح يتمثّل بشراكة كاملة بين من يمثّلون الوجدانات الطائفيّة، فتؤمّن بتلك الشراكة مناصفة حقيقيّة تبقى وحدها قلب النظام السياسيّ في لبنان.