من تابع وقائع جلسة المحكمة الدوليّة، خلال شهادة النائب غازي يوسف، دهش لعرض المحكمة وقائع الحوار المسجّل الذي جرى بين رئيس الحكومة الراحل الشهيد ​رفيق الحريري​ والعميد ​رستم غزالي​ بحضور الصحافيّ شارل أيّوب. ليست الدهشة مرتبطة وموصولة بالعرض، بل بما أظهره الراحل من ودّ كبير لسوريا بالصوت حيث قال ما حرفيّته: "نحن نتطلّع دائمًا إلى سوريا بأنّها السند والأساس وما بهمنا تدقها شوكة، ما إلنا مصلحة نشوفها مهاجمة وكرامة سوريا من كرامتنا، وكرامة الجيش السوريّ من كرامتنا، وكرامة الرئيس السوري من كرامتنا، هذا ما تربينا عليه، هيدا طبع وليس تطبّعًا، تحصل خلافات ومررنا بها في الأشهر الماضية، لكنني على قناعة بأنّ لبنان لا يحكم من سوريا، ولا يحكم من دون سوريا، أيّ شوائب في العلاقة تبحث بهدوء ومش من موقع العداء والأحقاد هذه قناعتي... الوضع في المنطقة يتطلّب كلّ تعاون، نريد بحثًا جديًّا بالعمق من كلّ النواحي حتّى نصل إلى ما هو مصلحة لبنان وسوريا. أنا أهتمّ بمصلحة سوريا ومصلحة لبنان... أنا أخدم سوريا بأيّ موقع أكون فيه". سياق الكلام هذا، جاء ردًّا على إصرار من غزالي، بإظهار ودّ سوريا ورئيسها تجاه رفيق الحريري، معتبرًا أنّ الخلافات ليست ذات طابع عقائديّ بل تكتيكيّ يسهل حلّها، "سوريا تحبّك وسيادة الرّئيس يحبّك. لقد خرجت في العام 98 من الحكم وعدت برعاية سوريّة وعلى حصان أبيض. بعض الأمور تحصل ولن تحلّ الا بالحوار البنّاء والصّادق".

لا ينفي لطف الكلام واتزانه المنساب والمتجاذَب به بين الطرفين وجود خلافات بين سوريا والحريري الأب. الطرفان في هذا الحوار يقرّان به، لكنّ توقهما واضح في البلوغ نحو توافق، ظهر فيه الحريري شديد الحرص على بندين جوهرين في تركيبة العلاقة، وهما الطائف في سؤاله غزالي عن الأساس في الدستور اللبنانيّ فأتاه الجواب توًّا الطائف، فسأله الحريري: "لماذا نبتعد عن الطائف في الإعداد للانتخابات؟" فوافقه غزالي، ومن ثمّ العلاقة اللبنانيّة السوريّة مظهرًا "بأنّ لبنان لا يحكم من سوريا، ولا يحكم من دون سوريا"، بمعنى أنّ العلاقة هي شورى وتمازج إزائيّ قائم على الحالة الجذوريّة الرابطة بين لبنان وسوريا وليس الانصهاريّة التي تمحو بحقيقتها الشخصيّة اللبنانيّة أو الهويّة اللبنانيّة في الإطار السوريّ الواسع، أو العكس أيضًا.

يشي ذلك الحوار المسجّل بنيّة واضحة عند الطرفين بامتصاص الخلافات والتشنجات التي سادت العلاقة. والامتصاص ران إلى إستكمال عملية التفاعل والتعاون خارج منطق الإقصاء السياسيّ أو الجسديّ الذي حاول بعضهم هنا وهنالك زرعه. كما أنّ الحوار المسجّل انطلق من توجّس مشترك من تداعيات القرار 1559، وتفاعلاته في العمق السوريّ-اللبنانيّ، وما تكشّف عنه من أهداف خطيرة تفجّرت بالسياقات المذهبيّة والوجوديّة. بعض العارفين الذين لفتهم هذا الحوار الصوتيّ، أظهروا في حكم معرفتهم أن الحريري لم يقف عند ظاهر القرار، ولكنّه خشي من محتواه غير المعلن، والذي لا يحرّر لبنان من سوريا، ولكنّه يفجّر لبنان وسوريا والمنطقة بأسرها من الجوف أي من التكوين البنيويّ والمذهبيّ. وقد اعتبر هؤلاء بأن تلك الاعتبارات الظاهرة بالصوت إدانة للمحكمة الدوليّة التي تكتفي بسماع شهود لفريق سياسيّ يسوّق شهادته في الإطار التوظيفيّ المتورّط، ولا تسمع بالمقابل لشهود آخرين يملكون وقائع أخرى تناقض ذلك التوظيف الواضح.

إسقاطًا لهذا الحوار، يتضّح بأن سوريا لم تطمح يومًا إلى إفناء رفيق الحريري سياسيًّا أو جسديًّا، فعلى مرّات عديدة كان الرجل متنفّسًا لها، ودعم، تاليًا، دورها وقاد مصالحات بينها وبين فرنسا، فضلاً على أنّه مثّل ذلك الجسر المتين بينها وبين السعوديّة، والحريري من باب قوميّته العربيّة التي نشأت عنده منذ شبابه كان ضنينًا بدورها في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ سوريا مدركة بأن إفناء الحريري والقضاء عليه، يحرقها في لبنان، فيما القرار 1559 المذكور سيف مسلط فوق رأسها، فلماذا تريد الانتحار في بلد هو خاصرتها بحسب الأدبيات السوريّة؟

تلك أسئلة يسوغ طرحها من باب التأمّل السياسيّ-الذهنيّ بعيدًا عن إظهار الحقائق. ولكنّها تصير دامغة بالحقائق والمعطيات سيّما أنّ مشيئة أقوى من سوريا ولبنان والعراق استهلكت اغتيال الحريري لضرب أسس المشرق بحرب مذهبيّة تكوينيّة وترايديّة بامتياز.

وفي هذا السياق، يكشف عمران أدهم، وهو رجل أعمال من أصل سوريّ، وكان صديقًا ومستشارًا للرئيس الفرنسيّ فرنسوا ميتران، في كتابه "النفاق الأميركيّ" عن حقيقة اغتيال رفيق الحريري بفصل كامل (من ص77 حتى ص102)، متّهمًا الإسرائيليين والأميركيين بقتله بصاروخ صغير من البحر انطلاقًا من حوار جرى بينه وبين جون بيركنز أحد كبار رجال الاستخبارات الأميركيّة CIA ومع ديفيد نيوتن الذي تبوّأ بدوره منصبًا كبيرًا في الوكالة عينها، كاشفًا بهذا الحوار المسبوك جيّدًا بالوقائع، كيف انطلقت الفكرة عند رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق أرييل شارون، وأقنع بعد ذلك وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس والتي بدورها أيضَا أقنعت الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش بالعمليّة تحت حجّة أن الحريري خطر على إسرائيل بطموحها الاقتصاديّ النفطيّ، وبخاصّة في مسعى لبنان لترسيم الحدود مع قبرص، وخطر على أمنها بتسويغه وتشريعه دور "حزب الله" كـ"مقاومة". وبعيدًا عن اصطفاف أدهم السياسيّ والأمنيّ الظاهر في مؤلّفه، فإنّ رفيق الحريري الذي فاز في الانتخابات النيابيّة سنة 1996، وترأس الحكومة بعد ذلك، وبعد مجزرة قانا في السنة عينها، تبنّى في بيان حكومته سلاح "حزب الله"، معتبرًا أنّه شرعيّ وضروريّ في مواجهة إسرائيل، وظلّ ثابتًا على هذا المبدأ من دون حياد على الإطلاق حتّى استشهاده. وبدا على تنسيق دائم مع الأمين العام لـ"حزب الله" السيّد حسن نصرالله بصورة أسبوعيّة. إنّ زعم شارون والذي أقنع به رايس بحسب كتاب أدهم على حقّ لأنّ رفيق الحريري كان الداعم الأوّل لسلاح الحزب، مثلما هو متماه مع سوريا وغير بعيد عنها، بحسب كلامه لرستم غزالي.

وفي الإطار عينه كشف عمران أدهم الهدف من اغتيال رفيق الحريري. وهذا ما اعتقد به كثيرون ممن واكبوا تلك الحقبة. الهدف تفجير المنطقة بأسرها انطلاقًا من هذا الاغتيال من لبنان إلى العراق. القرار نفّذ بدم الرفيق، الذي حرّر لبنان من سوريا، كما قالت رايس، فكان اغتياله زلزالاً وبداءة عرقنة اتسعت رقعتها بصورة دراماتيكيّة. وفي الكتاب أيضًا كلام عن حرب تموز سنة 1996، وقد ربطها بدورها باغتيال رفيق الحريري، معتبرًا بأنّ إسرئيل ما كانت تنتظر خطف جنديين لها بل كانت تعد العدّة لها منذ سنة 2004، لتترافق مع اغتيال الحريري الذي حاول شارون تنفيذه في السنة نفسها.

يظهر الكتاب الذي يتهم ديتليف ميليس المحقق الألمانيّ بالعمالة بناء على كلام ديفيد نيومن، بأنّ المحكمة الدوليّة تمثّل تلك الخطة السياسيّة غير التائقة للحقيقة، بل التي تشاء تمييعها ومن ثمّ طمرها تحت الرمال، ويتوكّأ على أنطونيو كاسيني الذي استقال من رئاسة المحكمة لأسباب أخلاقيّة تمسّ بالحقيقة والعدالة. يؤكّد الحوار الصوتيّ بين رفيق الحريري ورستم غزالي والذي بثته المحكمة وهو لغير مصلحتها انحيازها واصطفافها السياسيّ. المعلومات الأميركيّة على لسان أدهم، والتسجيل الصوتيّ إدانة واضحة لمحكمة لها وظيفة سياسيّة غير عادلة ولا تبحث عن إحياء الحقيقة بل عن قتلها ودفنها إلى جانب الشهيد.