ليس يسوع المسيح شعرًا أو ثورة، هو الإله المتنزّل في أزمنة البشر، ليجعلها جزءًا من ذاته ويبطل قيودها بأبديّته. هو إله فوق كل جمال، فوق كل فكر لأنّه الرحم لكل خير وحقّ وجمال، وفكرة الفكر و"عقل العقل"، وما من جمال انطبع في التاريخ البشريّ بالشعر والموسيقى والرسم إلاّ به هو. يكفي أن يتمّ النظر إلى أيقونة الختن أو أيقونة الصلب حتى يذوق الإنسان كثافة البهاء، ويتّشح بالسّطوع فيخشع ويزهد، بعد أن برتوي من المحبّة القصوى، بمجانيّتها وانسكابها، وقد أمست رحمًا لثورات تفجّرت في التاريخ لتكشف التوق إلى الكمال.
قمّة الثورات التي لا تضاهى بأيّة ثورة في الدنيا، إذ عليها تأسّست الخليقة الجديدة، ظهرت بهذا الأسبوع المسمّى بأسبوع الآلام، أو الأسبوع العظيم المقدّس. لم يسبق أن حصل في أيّ دين لا حق أو سابق، أو في حضارة، أن تمزّق إله بالسياط والبصاق، وقبل ذلك أن تعرّض لمحاكمة أقل ما يقال فيها بأنّها عرفيّة حيث حوكم بالصلب. هناك تمتمات في بعض الحضارات بميثولوجيتها أو بخلفيّة خفيّة حيث ظهرت أساطير أشارت إلى فعل الانبعاث كما في أسطورة أدونيس، وعند اليونان انحصرت الرؤية بصراع للآلهة حتّى الفناء، في وقت ظهر طيف الله في محطّات فلسفيّة مع أفلاطون في رؤية أشارت بأنّ ثمّة من يحرّك ولا يتحرّك، خالق وغير مخلوق، ليؤكّد بأنّ المخلوقيّة حركة من أزليته هو وليس من نتاج الآلهة.
وعلى الرغم من ذلك، تلك التمتمات ما كانت سوى المقدّمة المحتشدة بعباراتها ومعانيها لانكشاف الكلمة بل الكلام الفصيح، بالمسيح يسوع. انكشف الكلمة في كمال الأزمنة أو "ملء الزمان" والعبارةلبولس الرسول، لأن العالم أمسى في ضيق، وليس للضيق أن يتبدّد إلاّ بالقمّة والذروة، أي بحضور الله في التاريخ، وسكناه في جوفه، ومعاشرته لناسه، وشفائه لمرضاه، وإقامته لأمواته، ونشر ذاته بعظاته، ليترمّم بهذا الفحوى الوجه الجديد لكون جذبه نحو الصليب حتى يقوم معه في اليوم الثالث. لا تنبع عظمة هذا الأسبوع وقد دخل فيه المسيحيون الأرثوذكس كما دخله قبلهم الكاثوليك، من الآلام الرهيبة والوحشيّة المتمثّلة على جسد المسيح، هذا الذي نأكله في القداس الإلهيّ، بل بالرؤية الكامنة في فكر المسيح نفسه المنطلقة من العظة على الجبل في إنجيل متّى، وفيها خطّ شريعته بأمثال ما قيلت من قبل، بدأها بالتطويبات وامتدت لتكتمل الصورة بالتماهي الذي شاءه مع كل فقير ومحبوس ومرذول وجائع. لقد خطّ نظمًا فعليّة لنظام جديد، كان خطاب العهد في إنجيل يوحنّا القمة، وما بين العظة على الجبل وخطاب العهد كشف أنّ دينونة هذا العالم قائمة على المحبّة.
والعظمة تجسّدت أكثر فأكثر، بأن الخطاب ليس نظريًّا، بل صار فعلاً بالتجسيد الكامل في آلآم المسيح وهي آلام الكون في لحظات المخاض. ما حاجة المسيح لاقتباله تلك الآلام بشدّتها ووحشيّتها؟ لماذا شاء أن يجعل نفسه حملاً ذبيحًا، وهو حمل الله الذبيح قبل كون العالم؟ وبالتحديد لماذا هو ذبيح قبل كون العالم، أي ان العالم لم يكن قد كوّن، وبه قد كوّن بحسب يوحنّا الإنجيليّ؟ في رؤية قد تكون الأقرب إلى الواقع، إن استخراج الأدران في الأجساد لا يمكن أن تتم إلاّ بعملية جراحيّة حتى تتعافى الأحساد وتطفر كالأيائل. والعالم الجديد ليس له أن يصير جديدًا إلاّ بدم يسفك وجسد يبذل من أجل خطايا العالم حتّى تستخرج ويصبح نقيًّا. وهو دم المسيح وجسده لينسابا في الكيان البشريّ وجوديًّا، والانسياب يجعل هذا الكيان مسيحًا، في العشاء السريّ الأخير وفيه قال خذوا كلوا هذا هو جسدي، خذوا اشربوا هذا هو دمي، إصنعوا هذا لذكري، وتحقّق هذا فعليًّا بأن علق على الخشبة فولدت الكنيسة من هذا الجنب المطعون بحربة.
باختصار واضح هذا الأسبوع هو أسبوع المحبّة... قبل موت المسيح وقيامته كان العالم حالة مبعثرة وبعد قيامته تغيّر العالم بكيانته وأنظمته العتيقة، عروش هوت، نيرون احترق بحقده، بيلاطس طواه النسيان، وما زال اليهود يستمرون بمؤامراتهم على الرب ومسيحه... لم تنته الحروب والقلاقل، ولا تزال الممالك تنقسم على ذاتها وهذا قاله هو، لكنّ الأساس أنّ المسيحيّة ليست جزءًا من العالم، بل إن العالم جاء منها يتحرك بها ويستمر من خلالها.
"ستكونون في ضيق.. ستسلمون إلى المجامع"، هذا المسيح عينه لا يزال في ضيق ويسلم إلى المجامع ويحاكم... ما يحصل في عالم اليوم ليس منفصلاً عن حقيقة المسيح الكونية ووجوده في الزمان. مسيحيو العراق وسوريا وفلسطين، مسيحيو المشرق هم المسيح المضطهد والمتألم والمصلوب... والاضطهاد ناشئ ليس لأن أتباع المسيح ضعفاء بل لأنّ المسيح لا يزال قويًّا لا يطاق... المؤامرة الحاليّة ليست على المسيحيين بل على المسيح نفسه اليوم لا زال الكون يضج ويرتج به.
لم يكن المسيح ضعيفًا ومرذولاً في لحظات الآلام والموت، بل كان عظيمًا مديدًا مضيئًا... "لا تخافوا"، في هذه الأزمنة يسير على المياه، يكفي أن ينظر إليه حتّى لا يبتلعنا الخوف والموت وقد عاينّاه في عظمته ومجده، وسنبقى نعاينه لأنّه الحقّ في كل مسرى التاريخ وعلى الرغم من الاضطرابات الهائلة.
الختن في هذا الأسبوع ياتي، يأتي في كل لحظة، سنسير معه حتى الجمعة العظيمة، تحت قدمية المثقوبتين وعند جذع الصليب سنسجد، وسيسجد مسيحيو المشرق بآلامهم وهي آلامه، بأوجاعهم وهي أوجاعه. فالقيامة آتية والنور سينفجر في الظلمات.
ليس المسيح شعرًا، هو الإله النازل إلينا، هو الحقيقة الوجوديّة الني نفيء إليها. إذهبوا إليه في أسبوعه العظيم، انطلقوا نحو حبّه لتكتشفوه في كل المتألمين والمقهورين وتذوقوه في لحظات وجودكم حنّانًا يحنو على أوجاعكم يلمسها بجراحه هو. إذهبوا إليه لأنه مصدر الحب والخير والحق والجمال... الحق والخير والجمال أقانيم تتحرك من الله المحبة، والمحبة كشفت لكم على الصليب بيسوع المسيح المتألم والمصلوب شكًّا لليهود وجهالة لليونانيين. في هذا الأسبوع يتكثّف اللقاء مع المسيح، فليكن اللقاء ممدودًا إلى آخر العمر لنتقوّى ولا نتعثر بما يحصل، فهو باق معنا وفيما بيننا، ونحن من ملئه خرجنا ولا وجود لنا الا به وهو الحقيقة المحيية للوجود.
شاعر لبنان والعرب العظيم سعيد عقل وقبل وفاته بساعات قال: "أجمل من يسوع رؤية يسوع". وفي هذا الأسبوع أجمل من ذكر يسوع أن نراه ونعانقه ونخشع في قلبه وعمقه حتى يصطحبنا بقيامته إلى نصره وضيائه... هناك تكتمل الرؤية ومن بعدها لا تحلو رؤية أخرى في الوجود. فأهلنا يا مخلّص أن نراك فتقوى بك إلى المنتهى. آمين.