ليس مألوفًا في الأدبيات الأميركيّة، وبخاصّة في الأدبيّات الصّادرة عن الإدارة الأميركيّة أن يخرج خطاب تحذيريّ بهذه الحدّة تجاه الخليج وأنظمته في الحديث الذي أجراه مع الصحافيّ ​توماس فريدمان​، إذ غالبًا ما انتمت تلك الأدبيّات إلى ذلك المحيط بعمقه السياسيّ، وتوظيفه الماليّ والاقتصاديّ بانصهار متين ما بين الدولار والنفط، ليولد من رحم الانصهار مفهوم (Concept) هيمن على حياتنا السياسيّة والاقتصاديّة، وهو مفهوم "البترو-دولار"، مشيرًا إلى عمق الانصهار في مدى الاستثمار على كلّ المستويات.

عاملان أساسيّان يتجسّدان في الحديث-الزالزال على مستوى الخليج والمنطقة بصورة عامّة. العامل الإيرانيّ، وهو عامل جوهريّ وأساسيّ في امتداده من زاوية الاتفاق مع الأميركيين، والاتفاق غير محصور بالحاجة الأميركيّة أو الغربيّة إلى إبرام الاتفاق حول المسائل النوويّة بواقعها التقنيّ، ومن ثمّ حصره بأطر محدّدة. ذلك أنّه اتفاق واسع ليس بسطوره المقروءة، وفي الواقعيّة السياسيّة Real politic لا يقرأ أي اتفاق بسطوره وحروفه، بل يقرأ خلف السطور، وخلفيّة إنتاجه، وعلاقة الإنتاج بأحداث المنطقة بالتأثير المباشر. ما هو مدهش في المشهد الحاليّ، أن الرؤى غير المنظورة في السائدة والسائرة في جوف الأرض، قد تمّت تهيئتها لتتجلّى رويدًا رويدًا.

لكنّ القمّة في حديث ​باراك أوباما​، تجلّت بتوجيه كلام مباشر وواضح للحكّام الخليجيين في حديثه إلى فريدمان، فقال بوضوح تام: "الخطر الذي يتهددهم ليس بهجوم محتمل من إيران، وإنّما السخط داخل بلادهم، بما في ذلك سخط الشباب الغاضبين والعاطلين، والإحساس بعدم وجود مخرج سياسيّ لمظالمهم... لذلك ومع تقديم دعم عسكريّ، ينبغي للولايات الأميركيّة المتحدة أن تتساءل كيف يمكننا تعزيز الحياة السياسيّة في هذه البلاد حتّى يشعر الشباب أنّ لديهم شيئًا آخر يختارونه غير "داعش". هذا حوار صعب نجريه ولكن علينا المضيّ به". وبتحليل مبسّط لفحوى الكلام، يتبيّن بوضوح، أن كلام أوباما غير بنيويّ في إشارته إلى تململ الشباب الخليجيّ، والذهاب بالإشارة الضمنيّة إلى الأنظمة الخليجيّة بتشدّدها تدفع الشباب لخيارات إسلامويّة، وكأنّ تنظيم "داعش" الارهابي صدى لصوت الحكام ومدى لأدوارهم في دفع الشباب لهذا التبنّي الواضح. وفي الوقت عينه، تترسّخ عدم بنيويّة الحديث لأنّه جزء من حراك انقلابيّ، أخرج المنطقة من سوريا إلى اليمن من الاصطفاف الذي زجت به، إلى معادلات ستتولّد من الاتفاق الأميركيّ-الإيرانيّ، والحديث المشار إليه ينتمي إلى روحية الاتفاق بإصرار قائله بالدفاع عن فحواه، والاتجاه إلى زرعه وغرسه في تراب الشرق الأوسط بأحداثه وتراكمها، ليس بحركة التأثير فقط ولكن بالانطلاق نحو التأسيس لرؤى متوازنة تحفظ المنطقة من الفوضى المتلاشية، وقد كانت طعامًا لذيذًا التهمته التنظيمات التكفيريّة من "القاعدة" إلى "داعش" و"جبهة النصرة" وسواها، وتنعّمت به حتى التخمة اللا محدودة.

لقد أخذ القرار بوضع حدّ لتلك التخمة ولا يسوغ ذلك إلاّ بهذا الاتفاق، الذي وإن أغضب إسرائيل المتخمة بدورها بآحاديّتها وسلوكيّاتها التوسعيّة على حساب القراءة الأميركيّة، ولكنّ إغضابها بالمفهوم الأميركيّ بات ملحًّا أكثر من ذي وقت، ويهدف الإلحاح الغاضب للحدّ من غلوائها من دون المساس باستراتيجيّة العلاقة في خطوطها العربضة النافعة للإسرائيليين والأميركيين. لكنّ إغضاب إسرائيل مصدره الغضب الأميركيّ من آحاديّتها وعدم تعاونها وتجاوبها في إرساء حلّ عادل وشامل بالنسبة للقضيّة الفلسطينيّة وبخاصّة في التأكيد على وجود دولتين متجاورتين ليجيء الموقف الإسرائيليّ من الاتفاق الأميركيّ-الإيرانيّ فيرتفع منسوب الغضب الأميركيّ، وتشنّج العلاقة أكثر بين الطرفين، من دون نسيان استعمال إسرائيل القوى التكفيريّة في محاربة الاتفاق في عمليات على الحدود السوريّة-الإسرائيليّة-الأردنيّة، وقد كانت في حقيقتها رسالة إسرائيليّة إلى الأميركيين.

العامل الثاني في حديث أوباما، متداخل في سياق الأحداث من اليمن إلى سوريا. من قرأ الأحداث في اليمن وقارنها بالأحداث الدائرة في سوريا والعراق قبلهما استنتج أنّ الحرب بحقيقتها هي في اليمن وعليه. تجمع أوساط عديدة على طرح سؤال واحد ومحدّد، هل الأميركيون قبل سواهم هم خلف ​عاصفة الحزم​ بوجه الحوثيين، وما هو مضمون التشجيع الأميركيّ لهبوب تلك العاصفة بهويتها السعوديّة وأطماعها بوجه اليمن؟ ليس خافيًا على أحد، بأنّ اليمن بات فخًّا نصبه الأميركيون للسعوديين، كما نصبت إيبريل غلاسبي الفخّ لصدام حسين في تشجيعه على احتلال الكويت بحجة أن الكويت كانت جزءًا من العراق، وانطلق قطار التغيير في المنطقة من أرض الكويت، من معركة تحريرها بتمويل سعوديّ واضح. وبتوصيف أوضح، إنّ "عاصفة الحزم" السعوديّة عزّزت بالإرادة الأميركيّة موقع الاتفاق الأميركيّ-الإيرانيّ، وانعكس على المدى الخليجيّ بتحديد أوباما مكامن الخلل، ليشدّد على المنطلقات التغييريّة، التي تحتاجها أرض الخليج العربيّ.

يشي كلّ ذلك بأنّ عمارة الشرق الجديد قد بدأت تترمّم خلف الأحداث اليمنيّة والسوريّة، ويتطلب رسوخها أرضًا صلبة وأعمدة متينة وتوازنًا كيانيًّا في المكوّنات. حتمًا إنّ الرؤى الأميركيّة الجديدة انبعثت من بعد قراءة نقديّة أجرتها الإدارة الأميركيّة لاندراجها المباشر في الحروب من العراق إلى أفغانستان، وصولاً إلى ​لبنان​ بأحداثه الأخيرة. ما من شكّ أنّ هذه القراءة أفضت إلى نقض مفهوم الفوضى الخلاّقة وفي فوضى هدّامة، وتلك كانت نظرية وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس، بتحريك الحروب المذهبيّة بموروثاتها القديمة، وتحشيد إرهاصاتها باغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري. لقد كانت إيران الشرّ في النظرة الأميركيّة، واتهمت غير مرّة بالإرهاب، ووضعت على لائحة الإرهابيين، ودعي الرئيس السوري السابق بشار الأسد بعد أحداث 11 أيلول 2001 إلى عدم التعاون مع "حزب الله" و"حركة حماس"، وفكّ التحالف مع إيران.. تلك مؤشرات استندت إليها الإدارة الأميركيّة لتبرير دخولها العراق، وصولاً إلى إصرارها على صدور قرار يطالب سوريا بالخروج من لبنان والمعروف بالقرار 1559. وفي مسرى الربيع العربيّ اشتدّت المطالبة الأميركيّة بإسقاط نظام الأسد في إطار الثورة، فيما الرئيس بقي في السلطة على الرغم من شراسة الحرب عليه.

عزّز حديث أوباما موقع الاتفاق الأميركيّ-الإيرانيّ في محيط الشرق الأوسط ورسوخه كمعادلة ثابتة لعمارة جديدة، من اليمن والخليج إلى سوريا والعراق ولبنان. قواعد اللعبة الجديدة بدأت بالانسياب في مواقع الصراع، وفي لبنان تبدو المؤشّرات التغييريّة واضحة في مواقف بعض الأفرقاء، وقد تظهر الأيام المقبلة تشتّتًا للمعسكريين السياسيين، فالوهج الظاهر من الكلام الأميركي الأخير وأطره، ومن الاتفاق الأميركيّ-الإيرانيّ، سيحرق الاصطفاف بمضمونه السياسيّ ويتجه بلبنان إلى مرحلة جديدة ستنطلق من الحرب على الإرهاب في محور القلمون-عرسال، متلازمًا مع انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة في لبنان قريبًا على ما تؤكّد أوساط متابعة.