يلتقي اللقاء الأرثوذكسيّ والرابطة السريانيّة على إحياء ذكرى اختطاف المطرانين بولس يازجي ويوحنّا إبراهيم بعد النداء الصارخ والموجع لكلّ من بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الارثوذكس يوحنا العاشر اليازجي وبطريرك السريان الارثوذكس زكا عيواص الأول. لا يمكن مقاربة اخنطافهما بالهدوء بعد سنتين على الغياب "بولس ويوحنّا في محاكمة، وقفا مرّة في بداية البشارة المسيحيّة، ويقفان مرّة أخرى اليوم، في البقعة، وإن اختلفت التسميات. إنّها محاكمة قلّ نظيرها، ليس في الشرق بل في عالمنا المعاصر... يا إخوة الدم، أنتم الذين حكم أو سيحكم عليهم، منكم من أخذ حكم ربّه شهيدًا أو معترفًا، ومنكم من يعيش شهادة رجاء منقطع النظير، في صمت أو تهويل، في هوان أو ضيق... دمكم سواءً النابض أو المسفوك بلسم لعوائلكم وإخوتكم، وختم انتصار في محاكمة الخلود... يا إخوة الحقّ خسئ كلّ من أعلن نصرته على حقّ في الظاهر، هو باطل في الخفاء..." كيف يمكن بهذا المعنى أن يقارب هذا الملفّ بهدوء تامّ، "وقد باتت قضيتنا أبعد من جماعة، وأكبر من وطن، وأوسع من منطقة. محكّنا هو محكّ الإنسانيّة في عالمنا المعاصر، بحكم تشويهها ، خدمة لمصالح ومآرب متنوّعة"؟

بطل الهدوء في المقاربات التي يفترض أن تتحلّى بالموضوعيّة. لم يدرك الخاطفون ومن خلفهم من دول راعية ومحرّضة، بأنّ المسيحيّة المشرقيّة بمذاهبها المختلفة، قد اختطفت معهما في أقبية الظلم والجهل والموت. لا تحصر معاناة المسيحيين ومظلوميّتهم بماهيّة الخطف، فهي قائمة في تاريخهم القديم والمعاصر والحديث. والزمن الحاضر امتداد لذلك الزمن القديم في التوصيف الدقيق للمعاناة لكونها تحوي رفضًا كيانيًّا وجوهريًا لوجود يسوع المسيح الإله المتجسّد والمصلوب والقائم من بين الأموات في هذا الزمان وكلّ زمان. المجازر التي لحقت بالأرمن والسريان بما عرف بمجازر سيفو منذ أكثر من مئة سنة ونحن في ذكراها، من دون نسيان ما ارتكبه بحق اللبنانيين جمال باشا السفّاح وما حصل بحقّ المسيحيين من مجازر في جبل لبنان سنة 1840 و1860، وصولاً إلى إبادة المسيحيين خلال هذه الحقبة القصيرة من سريان وأشوريين وكلدانيين وأروام من الحسكة وقبلها من الموصل وسهل نينوى، فضلاً ذبح الأقباط في ليبيا ومن ثم الإثيوبيين تدلّ على ذلك الرفض بل العداوة المطلقة لانغراس يسوع المسيح في بلاد العرب من فلسطين إلى كل مكان.

تسلسل الوقائع الدامية والممارسات العنيفة في ما اصطلحت تسميته بالربيع العربيّ، وهي تسمية جوفاء وخرقاء، وبخاصّة في سوريا والعراق، كشف عن خطة ممنهجة هادفة لتهجير المسيحيين واقتلاعهم من جذورهم وهويتهم من المشرق العربيّ بالترغيب حينًا والترهيب أحيانًا، وتجسيد الترهيب قتلاً وسفك دماء. كلّ ذلك يحدث، تحت ستار النّفاق الدوليّ، وفي ظلّ توق تركيا لاستعادة المشرق وإلباسه لباسًا نيو-عثمانيًّا جديدًا. إن توصيف البابا فرنسيس للمجازر الأرمنيّة بالإبادة، والإبادة وحشيّة لهو الذروة في الصدق والشفافيّة فيما حكومة رجب طيب أردوغان التي رفضت التوصيف ترفض الاعتراف بالحقيقة الموجعة. من يعد إلى الصور المنشورة في بطون كتب التاريخ لأطفال ونساء عراة، مصلوبين أو مذبوحين أو محترقين سواء كانوا أرمن أو سريانًا، لا يسعه سوى الاعتراف بتلك الحقيقة الوحشيّة بأنّ ما حصل هو إبادة، ولا تزال مستمرّة تمارسها القوى التكفيريّة الوهابيّة التي ترعاها تركيا وتستثمرها إسرائيل، وتطلقها بعض الدول الخليجيّة في مآربها ومصالحها ولا تحتسب، تاليًا، أنّها على مقربة منها سواء أطلّت من البوابة اليمنية أو العراقيّة.

وبالعودة إلى ذكرى اختطاف المطرانين يازجي وإبراهيم، كثيرون يراودهم التساؤل إلى جانب البطريرك يوحنا العاشر شقيق المطران بولس، كما البطريرك أفرام، ما سرّ الصمت المهيمن على غيابهما من دون أدنى معلومة تفيد إذا كانا قد بقيا على قيد الحياة أو قد توفيا. فإذا ما بقيا على قيد الحياة فحقّ بالدرجة الأولى لأبرشيتي حلب الأرثوذكسيّة والسريانيّة وأهلهما والمسيحيين بصورة عامّة أن يطمئنّوا إلى ذلك، وهذا حقّ إنسانيّ مشروع أقرته اتفاقيات جنيف والإعلان العالميّ لحقوق الإنسان، وإذا كانا قد توفيا فمن الطبيعيّ أن يتلقى الجميع الخبر لإجراء المقتضى، والسؤال المطروح من يخدم الغموض؟

ثمّة حيرة واضحة تكتنف الجميع، يؤكّدها كلام البطريرك يوحنّا الذي راجع الجميع في الداخل والخارج، ولم يحصل على حدّ أدنى من المعطيات أوالأجوبة التي تسمح له وللجميع بالهدوء والسكينة. وكأنّ مصير المطرانين قد أمسى ورقة للمساومات والابتزاز والمكر والخديعة. وإذا ما رمنا الحقيقة، إنّ المسألة لا تختصّ حصريًّا بالمطرانين فقط ولكنّها باتت مسألة مسيحيّة بالمطلق ويجب بحسب أوساط كثيرة أن تصير مسألة مسيحيّة-إسلامية في مواجهة الخاطفين المنتمين إلى قوى الظلام والضلال. تستغرب بعض الأوساط الأرثوذكسيّة كما المسيحية صمت القوى الإسلاميّة تجاه هذه المسألة البالغة الدقة والحساسيّة. فبعضها عبّر عن الاحتجاج من باب المسايرة، وبعضها الآخر لاذ بالصمت، في حين أن المسألة وجوديّة وتتطلّب إيغالاً كثيرًا وانعطافًا كثيفًا باتجاه المسيحيين وباتجاه المطرانين على وجه التحديد.

لقد بات واضحًا على سبيل المثال لا الحصر، أنّ المراجع الإسلاميّة العليا، كمرجعيّة الأزهر لم تطلق فتوى واضحة تحرّم خطف رجال الدين مسيحيين ومسلمين، فقط اكتفت تلك المرجعيّة بالاستنكار في اللقاء المسيحيّ-الإسلاميّ الذي عقد في رحاب الأزهر الشريف، في حين أنّ بعض المراجع الإسلامية الشيعيّة تذكّر دومًا بين الفينة والفينة بتدمير الكنائس وخطف المطارنة وتهجير المسيحيين، ولا تكتفي بالتذكير بل تذهب باتجاه التبني في مساحة الصراع الدائرة مع التنظيمات التكفيريّة، التي لا تكتفي بتدمير الأديرة ولكنّها تدمّر بدورها المقامات الإسلامية من دون تردّد كما حصل في العراق. تلك قوى لا تفرّق بين شيعيّ وسنيّ وبين مسيحيّ وأزيديّ، لا تفرق بين الحضارات، وخطف المطرانين في جوهره ينتمي إلى تلك الثقافة العبثيّة القاتلة.

إنّ المسألة تتطلّب في حقيقتها ثورة مسيحيّة-إسلاميّة، من القوى الحركيّة المتلاقية في فضاء واحد. المسيحيون بالدرجة الأولى مدعوون لتغيير نهج مسالكهم إنطلاقًا من لبنان، والاتجاه نحو تبني قضية المسيحيين العرب. الخطيئة العظمى والتي رآها أحد العقلاء بأنّ مسيحيي لبنان لم يقرأوا مدى الخطورة التي ستنعكس على مسيحيي لبنان بعدم تبنيهم لمسألة المسيحيين العرب وحصر الحلول في العلاقة بينهم وبين الأنظمة التي رعتهم وعاشوا ويعيشون فيها. لقد أظهر جهاد الزين في مقالة له، دور المسيحيّة اللبنانيّة بحالتها الدينيّة والسياسيّة باحتضان المسيحيين العرب ليس من باب تقديم المساعدات وهم كرام وملوك في قراهم وبلدانهم وأراضيهم، بل من باب التفاعل السياسيّ الجوهريّ والاستراتيجيّ، ولعلّ الانقسام العموديّ الذي بدأ يخفّ بوهجه، قد حال دون ذلك.

عندنا ثورتان في العمق، ثورة مسيحيّة تأسيسيّة، تستقرئ علامات الأزمنة من بواطن الصراع وما يمكن أن ينتج عنه حتى لا يؤخذوا إلى مزيد من التهجير والاقتلاع. ومن هذا الباب المسيحيون اللبنانيون في خطر، إذا لم يستدركوا بمنهجيّات تاريخيّة تستحضر التاريخ بأبعاده، وسلوكيات تتعظ من التاريخ لتدرك أنّ الوحدة فيما بينهم قادرة على اجتياز الصعوبات. ولا بدّ من استذكار أن الرئيس الراحل سليمان فرنجيّة قال لدين براون الذي جاء يهوّل طبقًا لمخطط هنري كيسينجر بتهجير المسيحيين بأن البواخر بانتظارهم، ولدي طوني وابن بيار الجميل بشير وابن كميل شمعون داني قادرون باجتماعهم وشبابهم لدرء الخطر وتثبيت وجودنا المحفور على الصخور من الشمال إلى الجنوب. فهل من يتّعظ؟

وثورة مسيحيّة إسلامية تثبّت قيم البقاء والعيش معًا بعروبة واضحة، مستذكرين كلام الرئيس سليم الحص بان اجتماع الإسلام القرآني والمسيحية المشرقيّة ينتج عروبة صافية.

تلك هي المقومات لتحرير المطرانين ومعرفة مصيرهما والحفاظ على بهاء المسيحية نابضة في المشرق العربيّ.