أخيراً، حصل اللقاء التاريخي والاستثنائي الذي طال انتظاره بين رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع ورئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون، بعد ثلاثين سنة من الصراعات الدموية والسياسية، على حدّ سواء.
وإذا كانت قاعدة "أن تأتي متأخراً خيرٌ من أن لا تأتي أبداً" تسري على هذا اللقاء، فإنّه لا شكّ حمل بين طيّاته الكثير من الإيجابيات التي يمكن البناء عليها، إلا أنّه رسم في الوقت نفسه العديد من علامات الاستفهام حول الخطوات التالية، كونه ليس سوى "النقطة الصفر"، على حدّ تعبير الزعيمين نفسيهما!
"فاجأتك مو"؟
"وصول رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع إلى الرابية للقاء رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون". هي بضعُ عباراتٍ شكّلت خبراً عاجلاً نزل صاعقاً على اللبنانيين، بالمعنى الإيجابيّ هذه المرّة، وإن كان متوقعًا باعتبار أنّ التحضير له بدأ منذ أشهرٍ طويلة، من خلال الاجتماعات الدورية التي كانت تُعقد بين "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية"، ممثّلَين بأمين سر تكتل "التغيير والإصلاح" النائب ابراهيم كنعان ورئيس جهاز الإعلام والتواصل في "القوات اللبنانية" ملحم رياشي.
رغم ذلك، بدا الخبر مفاجئاً، لكنّه لم يكن مباغتاً فقط للرأي العام، بل حتى للعماد عون نفسه، الذي كان يخلد للراحة بعيد اجتماع تكتل "التغيير والإصلاح" الذي أعلن فيه "عطلة حكومية" تمتدّ حتى منتصف شهر أيلول المقبل. تشير المعلومات إلى أنّ عون كان ينتظر حصول هذا اللقاء في قادم الأيام، ولكنّ كنعان نفسه لم يكن على علمٍ بتوقيته، لدرجة أنّه اعتقد أنّ رياشي كان "يمازحه" حين توجّه إليه بالقول: "وصل الحكيم"، ولم يصدّقه إلا بعد أن رأى "الحكيم" بأمّ العين.
صفحة جديدة..
وأبعد من المفاجأة، تبقى دلالات هذا اللقاء، وهي كثيرة، وهي لا تقف عند حدود إعلان النوايا الذي خرج إلى العَلَن، والذي يشكّل خطوة نوعية بين فريقين كانا يعتقدان أنّ ما يفرّق بينهما أكثر ممّا يجمع، ليتبيّن أنّهما يتوافقان، مثلهما مثل جميع اللبنانيين، على الكثير من الثوابت الكبرى والمبادئ العامة، التي يجب أن تكون "بيت القصيد".
عمومًا، ترى مصادر سياسية أنّ مجرّد حصول اللقاء بين خصمين تاريخيين كعون وجعجع يُعتبر أمراً إيجابيًا يمكن أن يُبنى عليه الكثير، فكيف إذا كان المعنيّون قد حرصوا على أن لا يكون الاجتماع قد عُقِد لمجرّد أخذ الصورة التذكارية، بدليل أنّ هذا اللقاء كان يمكن أن يتمّ منذ فترة طويلة لكنّه أرجئ حتى إتمام ورقة النوايا، حتى يكون هناك إنجازٌ عمليٌ يمكن الحديث عنه، لإدراك الجانبين أنّ الصورة وحدها لا تكفي، وأنّها لا تقدّم ولا تؤخّر شيئاً في المعادلة.
من هنا، تعتبر المصادر أنّ اللقاء الذي تمّ يفتح "صفحة جديدة" بين "التيار" و"القوات"، صفحة لا تعني بأيّ شكلٍ من الأشكال "انغلاق" الفريقين على بعضهما البعض، أو تبعية أحدهما للآخر، بل تعني بكلّ بساطة تقديم نموذجٍ يفترض أن يُحتذى في التلاقي بين المختلفين، وقبل كلّ شيءٍ الاعتراف بالآخر، على حدّ تعبير المصادر. وانطلاقاً من ذلك، تقلّل من شأن الانتقادات التي تعرّض لها "الحوار العوني-القواتي"، وخصوصًا لجهة القول أنّ لا أمل يُرتجى منه إذا كان مجرّد الاتفاق على "نوايا" أخذ كلّ هذا الوقت، حيث تشير إلى أنّ الخلافات بين الجانبين ليست وليدة الأمس، بل هي خلافات تاريخية متجذرة وعميقة، وبالتالي فإنّ مجرّد دخول الجانبين في مثل هذا الحوار هو إنجازٌ يسجّل للجانبَين ولا يمكن نكرانه عليهما.
الامتحان الحقيقي..
وإذا كانت "العموميّات" غلبت على "ورقة النوايا" بين الجانبين، التي سطع في بعض بنودها "نجم" المفاهيم "العونية" فيما اشتمّت رائحة الأدبيّات "القواتية" بوضوح من بعضها الآخر، مع ترك المجال لكلّ فريقٍ بأخذها على طريقته، فإنّ كلّ هذا لا يقلّل أبدًا من أهمية الإنجاز، على حدّ تعبير المصادر، التي تدعو "المنتقدين" للتشجيع بدل العكس، مشدّدة على أنّ المخاوف التي تعتري بعض القوى السياسية، ولا سيما المسيحية منها، أن يكون هذا اللقاء على حسابها لا أساس لها، لأنّ أحداً لا يمكنه أن يلغي أحدًا، وبالتالي فإنّ المطلوب التعاون بين الجميع بما فيه مصلحة الوطن، كلّ الوطن، علمًا أنّ المصادر تشدّد على أنّ حلفاء كلّ من "التيار" و"القوات" كانوا في ضوء مستجدّات الحوار طيلة المرحلة الماضية، ما يؤكّد "حسن النوايا".
عموماً، تشير المصادر إلى أنّ ما حصل بالأمس ليس سوى خطوة أولى يبدأ العمل الجدّي بعدها، أو كما قال الزعيمان نفسهما أنّه بلوغ لـ"النقطة الصفر"، بعدما كانا تحتها في ما سبق، ما يعني أنّ الآتي يبقى الأهمّ والأكثر حساسية، ما يتطلب تعاوناً من الجميع، وهذا الآتي وحده قادرٌ على نسف كلّ بنية الإنجاز الذي تحقّق من أساساتها. من هنا، تعتبر المصادر أنّ الاستحقاقات المنتظرة أمام حوار الجانبين ستشكّل امتحاناً حقيقياً، وإذا كان المرء يُكرم أو يُهان في الامتحان، فإنّ التقارب القواتي العوني إما يتكرّس أو يُدفن عند هذا الامتحان، ولا شكّ أنّ الاستحقاق الرئاسي يأتي في الصدارة، بحيث لا يمكن القفز أيّ خطوة للأمام في حوارٍ مسيحيٍ من هذا النوع، إذا استمرّ تجاهل هذا الاستحقاق المصيري والقفز فوقه، لأنّ المطلوب من أيّ حوار أن يكون مثمراً بحيث يقرّب بين وجهات النظر لإنتاج حلّ فعلي، وإلا فهو إما يصبح "تمثيلية" و"ضحكاً على الذقون" بكلّ ما للكلمة من معنى، فيفقد مضمونه بالكامل، وإما يصبح "حوار طرشان"، فتصبح أضراره أكثر من منافعه.
ثامن المستحيلات؟
قبل أشهرٍ قليلة، كان مجرّد الحديث عن إتمام لقاء بين "الحكيم" و"الجنرال" ولو "عالواقف"، على هامش احتفالٍ سياسي ما هنا أو مناسبةٍ اجتماعيةٍ هناك، أو حتى تبادل الرجلين الحديث على طاولة الحوار الوطني، مفاجئاً للكثيرين، وبالتالي فإنّ الحديث عن "جلسة" أو "خلوة" بينهما كان من "سابع المستحيلات".
اليوم، ومع تحقّق "سابع المستحيلات"، بدأ الحديث عن "ثامن" هذه المستحيلات، متمثلاً بأن يؤدّي هذا الحوار إلى شيءٍ عملي، وهنا "الرهان الحقيقي" على أن يُحدِث "خرقاً" فعلياً وحقيقيًا سواء في الملف الرئاسي أو في النظرة إلى النظام ككلّ، فهل يصنع الزعيمان المسيحيان من تقاربهما "قوة" تمكّنهما من "التحرّر" من قيود تحالفاتهما المحلية والإقليمية، أم أنّ "حلماً" من هذا النوع لا يزال بعيد المنال؟