كلّ المكوّنات وليس الدروز وحدهم قلقة مما حدث في قرية من قرى ​ريف إدلب​ ومما يحدث أيضًا في السويداء من هجمات تقودها القوى التكفيريّة سواء كانت "داعش" أو "​جبهة النصرة​". وتؤكّد مجريات الأحداث، إنها الحرب العبثيّة بمنهجيّة تفتيتيّة صارمة لا تقبل الجدل أو التأويل، وليس للعقل البشري أن يقارب مشعليها ومرتكبيها بحوار أو تفاوض، لأنّ عقولهم قد أغلقت، وألسنتهم قد غدت من نار.

هذا المشهد وحده كاف لكي يحزم الناس أمرهم ويقفوا عند ضفّة نهر، لا ينتظرون فيه بتشفّ كبير جثثًا من صنف سياسيّ موصوف. بل ليدركوا بأنّ دماء الأبرياء دروزًا ومسيحييّن ومسلمين قد أهرقت بغزارة، وأمتزجت بمياه النهر ظلمًا على مذابح عبثيّة ما كان لتنظيم "داعش" أو "جبهة النصرة" وهما بدورهما على عداوة مطلقة أن ينصباها كلّ في حيّه، لو لم تكن تركيا وقطر والسعوديّة الدافع والمموّل لتشييدها وترسيخ عبدتها على الأرض، ولو لم تكن إسرائيل تعنى بانفلاشها للتأكيد على فلسفتها التفكيكيّة في مشرق متبعثر، وتنال بالدرجة الأولى من المسيحيين كمكوّن روحيّ كبير، لأنّ وجودهم يذكر إسرائيل بالمسيح الذي صلبته جورًا وظلمًا. المنطق الإسرائيليّ بسياقه الاستيعابيّ لحراك المثلث القطريّ-التركيّ-االسعوديّ رنا ولا يزال يرنو بتداعياته لاستكمال ذبح المسيح بأبنائه.

المشهد، وبهذا المعنى، غير محصور بسقوط الفيلق 52، فالمعارك وبرأي بعض الخبراء المتابعين، تخضع لمقاييس جدليّة وبطبيعتها هي ليست ذات نظام أحاديّ. هي حالة متواصلة ممدودة حتّى يحين أوان الحسم إمّا برضا الأطراف كلّها أو بإعلان مهزوميّة بعضها، فتلوح آفاق التسوية بلونها الأرجوانيّ، بناءً على ما يتكشّف على الأرض من حسم عسكريّ وأمنيّ. لا يصبو النقاش بتفاصيل ما حدث، بل من شأنه أن يتمركز حول الأهداف المطويّة بأوراق الحدث. ويتبيّن في قراءة موضوعيّة، بأنّ استهداف الفيلق المذكور أو الشيوخ والنساء والأطفال في إدلب على الرغم من كونه يستهدف طائفة موحّدة كريمة، إنّما هو تعبير جليّ وواضح عن سلوكيّات ترتبط بتراجع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الانتخابات التركيّة الأخيرة، وتحاول تلك السلوكيات أن تطال الاتفاق الأميركيّ-الإيرانيّ النوويّ المتوقّع توقيعه أواخر الشهر والذي من شأنه أن يفتح الباب أمام مجموعة تغييرات جذريّة تنتمي إلى مفاعيله ومعاييره في المنطقة.

معظم الاستهدافات من هنا وهناك بسياقاتها المتعدّدة وتراكماتها المختلفة تطال بصورة جذريّة ذلك الاتفاق المرتقب بين الأميركيين والإيرانيين. هو مكمن الخطورة عند الدول التي بدأت تشارف نهايات أو شبه نهايات لها كتركيّا أردوغان بالدرجة الأولى، والسعوديّة من البوابة اليمنيّة، وقطر بالعناوين التي استفحلت وانعكست على دورها في ملفّات عديدة تختصّ بالإسلاميين والتكفيريين. وكأنّ السحر بهذا المعنى بدأ ينقلب على الساحر.

أحد الخبراء الاستراتيجيين، وفي مجلس خاص، مال في حواره إلى أنّ الساحات الملتهبّة بدأت تختلط الأوراق في مساحاتها ومكوناتها والمفردات السياسيّة الناشئة ممّا كان قبلاً. واعتبر بأنّ بعض الدول كالسعوديّة تحوّلت من الهجوم ومن عاصفة الحزم إلى الدفاع عن حدودها وهذا يدل على انحسار نوعيّ وفاعل ومؤثّر على موقعها في المعادلة والصراع ما بين العراق واليمن وسوريا. وبعضها الآخر كتركيا دخلت مع أردوغان في عصر الأفول، بعد استكبار نشأ من حلم وراثة الإمبراطوريّة العثمانيّة بنيو-عثمانيّة جديدة وإسلامويّة، وسعي أردوغان على مستوى شخصيّ وإسلاميّ لكي يتحوّل في المدى الإسلاميّ إلى خليفة المسلمين الحقيقيّ... وشخّص بكلام رئيس حزب "الشعوب الديمقراطي" صلاح الدين دميرطاش مليًّا مؤكّدًا بأن السياق الأردوغاني صائر إلى تدحرج تدريجيّ من الخارج إلى الداخل والعكس أيضًا على الرغم من أنّ المعارضة غير متفقة بعد على رؤية واحدة تشي بولادة حكومة ائتلافيّة، إنّما الجوهر يبدو قد بدأ بالتدحرج.

وينطلق هذا الخبير في قراءته وكأنّه يقوم بعملية حسابيّة منطقيّة، ليبدي اعتقادًا، بأن ما حدث في السويداء وإدلب مخيف ورهيب بحجمه، سواء على مستوى الفيلق الذي أبيد، أو على مستوى طائفة لها تاريخها العريق في سوريا وفي مسرى النضال العروبيّ ضد الانتداب الفرنسيّ وقبله الاستعمار العثمانيّ. لكنّ تداعياته بالمقياس العام وفي ظلّ المناخ الواقعيّ الذي بدأ يسود لا تشي بخطورة تهدّد الكيان السوريّ ككيان مؤلّف من مجموعات مذهبيّة. فاللغة الطائفيّة لم تسد يومًا سوريا لا في عهد الرئيسين حافظ الأسد أو بشّار الأسد، ولا قبلهما حيث اشترك المسيحيون والمسلمون ببناء الدولة والنضال بأساليب مختلفة. فالتداعيات موضعيّة، وسيتم إجهاضها حتمًا بخطة استراتيجيّة ستنطلق من الدولة إلى "حزب الله" إلى فيلق القدس الموجود برئاسة قاسم سليماني.

ويذهب الخبير بحساباته، إلى أنّ ما حدث في السويداء أو في القرية المستهدفة في إدلب على الرغم من فداحته، حافز لكي يعيد بعض الأفرقاء حساباتهم. ذلك أن سقوط الفيلق 52 في السويداء، غير محصور في تلك البقعة الجغرافيّة بهويّتها المذهبيّة، بل بإمكانه أن يهدّد الحدود اللبنانيّة-السوريّة ويهدّد بصورة خاصّة مناطق البقاع الغربيّ والجنوب بالتأثير والتأثر. وهو قد قطع طريق دمشق عمّان، ويسير على ضفاف الجولان وجبل الشيخ. لكنّ القضيّة منوطة بخطّة يعدّها "حزب الله" بالتوافق مع ​الجيش السوري​ّ إذ لها مصلحة في التموضع والقيام بعملية التفاف واستعادة للموقع. ويعتبر الخبير الاستراتيجيّ بأنّ هذا المدى لن يكون معصومًا عن معركة جديدة يقودها الجيش السوريّ على غرار معركة القلمون، وبخاصّة أن الإسرائيلييّن داعمون مباشرة لـ"جبهة النصرة" على ذلك الخّط ويستهلكونها بهذا الجزء في إطار استراتيجيّة شاملة مؤلفة من جزئيات تهدف لتفتيت المنطقة.

ومن هنا انطلقت بالأمس صرخة الوزير السابق وئام وهّاب المشروعة بالمخاوف الوجوديّة التي أبداها تجاه الدروز في سوريا، فيما بعضهم يتجه للمقايضة بهدف واحد هو إسقاط النظام. كلّ العلامات الظاهرة الظليّة والمنكشفة دالّة على أن المسألة تبقى أبعد من إسقاط نظام بشار الأسد كما تشتهي بعض القوى.

يبقى أنّ الأوراق بدأت بالاختلاط، وترى بعض المصادر بأنّ هذا المثلّث متجه إلى الحسم طبقًا للتغييرات ما بين تركيا والسعوديّة. ومعظم الأطراف السياسيّة مدعوّة للترقّب الهادئ والرصين، والتفاعل العاقل والراقي من ضمن المسؤوليات الوطنيّة، والتفكير مليًّا لا بذاتها بل بناسها ووطنها، على قاعدة وكما قال الراحل الكبير السفير فؤاد الترك، "أنّ الذكيّ هو الذي يخلّص نفسه والعبقريّ هو الذي يخلّص شعبه وأمتّه". الحاجة في ظلّ التغييرات الناشئة من الصراع الكبير إلى عباقرة ينقذون وطنهم لبنان.