لا نجافي الحقيقة إذا قلنا أن ثمة أجواء من التململ والغضب والإحباط تهيمن على أهالي العاصمة وعائلاتها، بسبب هذا الإهمال المتفاقم الذي تعاني منه بيروت، من قبل الذين أؤتمنوا على تمثيلها، ومعالجة قضاياها، ومتابعة مشاكل ومطالب أبنائها.

لا نغالي إذا قلنا أن سيّدة العواصم تحوّلت إلى قرية كبيرة، تخلفت الخدمات الضرورية والأساسية فيها، عن مدن أخرى في الوطن، بل وعن العديد من القرى الصغيرة.

بيروت التي تفتح صدرها يومياً لنصف سكان لبنان تقريباً، يعملون ويتنقلون في أحيائها، وفي ضواحيها، تدفع ضريبة الانقسامات والخلافات السياسية التي تشل البلد، وتتحمل أثمان التنافسات وتضارب الصلاحيات بين المحافظ ورئيس المجلس البلدي، وهي قبل كل ذلك تشكو من توقف مشاريع التحديث والتطوير، منذ استشهاد الرئيس رفيق الحريري.

ساحات بيروت تحوّلت إلى مراكز احتلال للجماعات الغاضبة ضد جلاديها، سواء أكانوا من «داعش» أم من «النصرة»، أم من أي طرف آخر، لا علاقة للسلطة المحلية ولا للعاصمة به، لا مِن قريب ولا مِن بعيد!

شوارع العاصمة أصبحت محارق مفتوحة للدواليب، تزيد بسواد دخانها الأوضاع المتردية سواداً!

قلب بيروت النابض في الوسط التجاري أضحى مرتعاً لفشات الخلق، على اختلاف أصنافها، وعلى تنوّع أصحابها!

كل ذلك يحصل، ويتكرر، وبيروت متروكة لأقدارها، وكأن كل السلطات المعنية، وكل المرجعيات المسؤولة، عاجزة، أو على الأقل غير قادرة، على إنقاذ العاصمة مما تتعرّض له من انتهاكات!

* * *

وقائع على سبيل المثال..

هل ثمة ضرورة للخوض في التفاصيل، وتسمية الأشياء بأسمائها؟

وهل يحتاج هذا الواقع المتردّي لبيروت إلى مزيد من الشرح والتفصيل؟

أحاديث الغضب والإحباط من الواقع المرير للعاصمة قد تحتاج إلى تفاصيل لا تتسع لها هذه العجالة، ولكن ليس ثمة ما يمنع من طرح بعض القضايا «الفاقعة»، على سبيل المثال لا الحصر!

من أين نبدأ: من افتقاد الموظف البيروتي في دوائر البلدية والمحافظة، أم من عذابات أصحاب المشاريع والمهندسين في إدارات التراخيص للأبنية الجديدة، أم من طريقة تطبيق نظام التدقيق الهندسي الذي أنيط بمكاتب من لون طائفي واحد، ولا يطبّق إلا على المشاريع القائمة في بيروت الإدارية(!!)، أم على الأوضاع المتردية في فوج الإطفاء الذي يفتقد إلى العناصر والتجهيزات الضرورية لمواكبة حركة تزايد الأبراج في العاصمة، أم من الشوارع التي تعاني من عورات الإنارة الدائمة، أم من الطرقات التي تحوّلت إلى مطبات للمشاة بسبب الحفريات الدائمة والمتكررة تارة بسبب المياه والهاتف، وتارات بسبب إمدادات الكهرباء.

ماذا نقول عن فوضى الازدحام وكثافة السيّارات في مناطق مثل الطريق الجديدة والبسطة ورأس النبع، والأشرفية والرميل والجميزة، ومشاريع المواقف تبقى مجرّد حكي بحكي، ووعود في الهواء.

وهل يجوز أن يبقى وسط العاصمة الحضاري، الغني بمبانيه التراثية، حول ساحة النجمة، نزولاً إلى البلدية شمالاً، وإلى تياترو الكبير جنوباً، مقفلاً أمام المؤسسات التجارية والسياحية، والرواد وعاشقي بيروت العرب والأجانب، بحجة الدواعي الأمنية للمجلس النيابي، الذي عطّلت الخلافات العبثية جلساته ونشاطاته، ولم تفلح محاولات رئيسه وحكمته في فك عُقد المسترئسين!

لماذا يُعامل أبناء العاصمة في دوائر الجمارك والمحافظة والبلدية والمالية والعقارية كأبناء جارية، مواطنين من الدرجة الثالثة، يدفعون الرسوم والضرائب والرشوات، ومعاملاتهم تغرق في سبات عميق يعطل مصالحهم، وآخرين يعاملون كأبناء الست «تسمح» امتيازاتهم بإنجاز معاملاتهم بسرعة، وأحياناً على الفور، مع تهاون بدفع الرسوم المخفضة، في حال كان لا بد من الدفع، مع الإعفاء الدائم من «واجب» البخشيش أو الرشوة، رغبة أو رعباً لا فرق!

والحديث عن هذا الواقع المتأزم ومعاناته يطول ويطول.. ونكتفي بهذه العناوين اليوم.

صفقة أم إشاعة..؟

لا بدّ من الاعتراف بحصول عدّة محاولات لمعالجة أسباب الغضب والإحباط في المجتمع البيروتي، أبرزها من نواب بيروت، ومن «لقاء بيروت الوطني»، ومن «مؤتمر إنماء بيروت»، ولكن تلك المحاولات لم تحقق النتائج المرجوة، حيث بقي التجاذب بين رئيس البلدية والمحافظ مشتعلاً، وإقفال منطقة ساحة النجمة على حاله، والمحسوبية في الدوائر على ازدهارها، والخدمات العامة في أدنى مستوياتها.. إلى آخر مسلسل المعاناة!

ولكن الغضب بدأ يتحوّل إلى غليان اجتماعي وشعبي في مجالس المجتمع البيروتي على إيقاع الإشاعات المتداولة عن صفقة عقارية خيالية في المسبح الشعبي على الرملة البيضاء.

والحكاية من البداية، يمكن اختصارها على النحو التالي:

هو عقار يُشكّل جزءاً من المنطقة المعروفة بـ «المسبح الشعبي» في الرملة البيضاء، اشتراه الرئيس الشهيد رفيق الحريري في التسعينات من مالكيه، ليحول دون إقامة مشروع عقاري عليه، وليبقى مفتوحاً لرواد المسبح. ووجه باني بيروت الحديثة كتاباً إلى بلدية بيروت يتضمن تنازله عن هذا العقار لمصلحة البلدية، ولكن لأسباب لم تتضح لنا بعد أهمل المجلس البلدي السابق الموضوع، وبقي العقار في ملكية عائلة الحريري، حيث بادر نجله رجل الأعمال فهد إلى بيعه إلى أحد المهندسين (و.ع) الناشط في قطاع الاستثمار العقاري، بمبلغ وقدره ثلاثين مليون دولار أميركي.

ارتفعت الأصوات تطالب بالحفاظ على المتنفس البحري الوحيد للعاصمة وضاحيتها الجنوبية، بعدما أعلن المالك الجديد عن عزمه على إقامة مشروع عقاري، وقام بوضع حواجز تمنع الدخول إلى العقار والشاطئ التابع له.

تجاوب رئيس البلدية مع المطالبة في الحفاظ على المسبح الشعبي، ودخل بمفاوضات مع المالك الجديد الذي يُقال انه طلب مبلغ مائة وخمسين مليون دولار أميركي ثمن العقار!

ثمة إشاعات تقول أن الصفقة تمت بهذا الرقم الفلكي، على حدّ التعبير المصري المعروف، من دون أن يتمكن أحد من تأكيد أو نفي الأمر، بسبب وجود رئيس البلدية خارج لبنان، وصمت الدوائر البلدية المعنية بالموضوع.

ويبقى السؤال:

هل هي صفقة - فضيحة، أم مجرّد إشاعة مغرضة؟

لعل الغد يحمل الجواب الحاسم!