بديهيّ أن يصعّد رئيس تكتّل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون مواقفه بوجه عمليّة التمديد للقادة الأمنيين. والتصعيد الذي شاءه خلال مؤتمره الصحافيّ بالعبارات القاسية المنتقاة والموجّهة بوضوح لقائد الجيش العماد ​جان قهوجي​ أو للجهة السياسيّة المحتجبة خلف القرار، ما كان واردًا في المطلق لولا الشعور بالمحاصرة التي وصلت الى مرحلة الافتئات على مكوّن له أرومته وحيثيّته التكوينيّة الواسعة على الأرض.

ساذجٌ من يعتقد بأنّ الاحتجاج محصور بعدم الوصول نحو التعيينات، بل المسألة أعمق بكثير، ولو شاء بعضهم تسوية تقود نحو حلّ معقول.

لا يخوض العماد عون بهذا المعنى معركة أشخاص، بل معركة تثبيت المسيحيين كيانيًّا في الدولة. ومن خلال معركة التثبيت يخوض معركة الشراكة الوجوديّة المفقودة في الحيّز العام منذ سنة 1990 ولا تزال حتّى تلك اللحظات، يستلذّها من شاءوا استيلاد المسيحيين من أرحامهم بغير وجه حقّ، وفي الوقت عينه يخوض عون معركة الدمج بين ما هو شرعيّ وما هو قانونيّ وميثاقي في رحاب السلطة التشريعيّة-التمثيليّة والسلطة الإجرائيّة. وتظلّ تلك الأهداف بحدّ ذاتها محورًا وجوديًّا كبيرًا. إذ إنّ الصفتين المذكورتين هما الحالة الجوهريّة المفقودة، بعد تجويف يسير وواسع للطائف غير مرّة باعتباره ورقة تسوويّة. ومن شأن هذا التلاشي أن يوطّد سلوكيّات الانفجار فيبدأ سياسيًّا وقد ينتهي ببعض الشغب والضجيج، تمهيدًا لمؤتمر تأسيسيّ جديد، لم يعد لبنان بمنأى عنه مع تهاوي مؤسساته وتدحرج نظامه وتمزّق كتابه وتبعثر كيانه.

ولا يختلف المحلّلون على أن لبنان بات بهذا الملفّ الدقيق وبملفّات عديدة متراكمة منها ملفّ النفايات في عين العاصفة التي تحمل عناوين تكوينيّة ليس للبنان فقط، بل لمنطقة التهبت وأمست، تاليًا، هدفًا لاعتداءات التكفيريين على معظم المكوّنات مسيحيّة كانت أو إسلاميّة، في كلّ من سوريا والعراق. وقد تحوّلت اعتداءاتها مؤخّرًا إلى عمق المملكة العربيّة السعوديّة، مستهدفة مركزًا أمنيًّا كبيرًا، وبالأمس القريب استهدفت المصلين في جامع في مدينة القطيف. ما يجدر فهمه بحسب قراءة تجريها أوساط عديدة، بأنّ العاصفة والتي بات لبنان في عينها، جزء من الحراك الناشئ تحت مظلّة الاتفاق الدوليّ-الإيرانيّ، أي أنها تحمل في هبوبها عناوين جديدة ستنكشف تباعًا في المطالب المتنازع عليها وهي بدورها قيد النقاش السياسيّ في المسرى التكوينيّ الجديد الذي يرسم لهذه المنطقة. ويشعر العماد ميشال عون، بأنّ المعركة معه جزء من هذا الحراك في صراع هو جزء من "ميكانيزم" التفاوض بين السعوديّة وإيران، وبين سوريا والسعوديّة. وينبع شعوره من قراءة يجريها بصورة دائمة مع شلّة مقرّبة إليه، بعضها يشي بأنّ السعوديّة تضغط في لبنان من خلال "تيار المستقبل"، وبخاصّة من خلال النائب فؤاد السنيورة لإقصائه بدءًا من التعيينات الأمنيّة وصولاً إلى الأعلى، حتى تنضج التسوية بين معظم الأطراف. ذلك أنّ السعوديّة تخشى في الحقيقة أيّ مساس في ​اتفاق الطائف​، لكونه يعزّز موقع الطائفة السنيّة في السلطة كرحم يستولد الطوائف الأخرى في كنفها وتطالب في منهجيّة حراكها ليس مع الفرقاء الداخليين بل مع القوى الأخرى اللاعبة على الأرض اللبنانيّة، وفي معرض معركة التفاوض، بتسوية تحافظ على الطائف كما هو مقابل رئيس للجمهوريّة قويّ، ولكن ليس العماد عون.

لقد بات واضحًا في تراكم مجريات الوقائع بانّ الاستهداف بحدّ ذاته شخصيّ. لم يدرك ميشال عون بأنّ ذلك الفريق ("المستقبل") المثقل بالملفّات، لا يطيق رجلاً مثله لم يتمّ التداول باسمه في وثائق "ويكيليكس"، الفائحة برائحة الفضائح العفنة وقد تفوح من متنها روائح النفايات الكريهة. لم يقرأ عون بأنّ ذلك الفريق السياسيّ واضح في رؤاه تجاه المسيحيين، منذ أن سمعنا بالصوت، خلال إدلاء رئيس "اللقاء الديمقراطي" النائب وليد جنبلاط بشهادته، في المحكمة الدوليّة، ذلك الحديث بين رئيس الحكومة الراحل ​رفيق الحريري​ ونائب وزير الخارجية السوريّة آنذاك ووزير الخارجية الحاليّ وليد المعلّم، حين رفض تقسيم بيروت إلى دوائر معتبرًا بانّ تقسيمها سيسمح بانتخاب مسيحيين متطرفين كميشال عون وجبران تويني وصولانج الجميّل. "تيار المستقبل" منذ رفيق الحريري يخشى من النبض المسيحيّ بل من المسيحيين الأقوياء. لم يقرأ كثيرون من المسيحيين امتعاض رفيق الحريري نفسه من تنامي دور شركات الإعلان المسيحيّة، وبالتحديد دور الراحل أنطوان شويريّ آنذاك وجهوده لفوز نادي الحكمة الرياضيّ بكأس لبنان وآسيا، وقد طلب من مدير عام وزارة الإعلام آنذاك الدكتور محمّد عبيد العمل على إقفال تلك الشركات، وحين قال له بأنها قانونيّة أجابه "الطائف وجد لنا أي المسلمين يا محمّد". ولن ينسى كثيرون كيف أن الحريري نفسه أخرج مدير عام صندوق المهجرين المهندس شادي مسعد من منصبه لأنّه واجهه وطلب منه دفع الأموال العائدة لمسيحيي عاليه والشوف، لإنهاء ملفات كفرمتى وبريح وكفرسلوان آنذاك، وقد رفض الحريري بحجة أن الأموال لا تكفي، في حين أنها كانت تعطى لمناطق عديدة وكانت تُحجب عن المسيحيين، وكلّفه ذلك الخروج من منصبه. وكلّ ذلك نما من اتفاق وجد لطائفة على حساب طوائف أخرى، وكرّس منطق الغالب والمغلوب.

المعركة التي يخوضها ميشال عون طويلة، إنّها معركة تثبيت الوجود المسيحيّ في لبنان حتى لا ينقرضوا كمسيحيي نينوى، في إطار معركة رسم خطوط جديدة تحت ستار الاتفاق الإيرانيّ-الدوليّ، ولبنان أرض المعركة.