حالياً الإعلام منشغل بموضوع الفتن الأهلية في العالم العربي وبواقع التمزق وبهواجس تقسيم الدول وإعادة النظر بالخرائط السياسية، وكل ذلك يضع ​القضية الفلسطينية​ جانباً وهي التي شكلت تاريخياً البعد القومي العربي باعتبار أن فلسطين هي بوصلة العمل العربي وحتى الإسلامي.

وإذا كانت القضية الفلسطينية تاريخياً عامل توحيد عربي باعتبار أن الصراع العربي-الإسرائيلي هو الأساس لأي تحرك عربي أو لأي تغيير على مستوى الأنظمة أو لأي توجه إستراتيجي على مستوى الجامعة العربية، فإن هذه القضية تراجعت على مستوى الحكام العرب والسياسات العربية، بل إن منحى الإنقسامات يكاد يطال الشعب الفلسطيني نفسه وينقل إليه الأمراض التي جلبها معه ما يسمى خطأ "​الربيع العربي​" الذي مكّن الولايات المتحدة الأميركية أن تكون اللاعب الأساسي الأبرز باعتبار أنها تقود مع الرئيس الأميركي باراك أوباما إدارة التوازنات والخلافات وتتحكم بالمحاور السياسية على اختلافها، بحيث أن دول المنطقة جميعها تقترب من واشنطن رغبة في معرفة مكانها وموقعها في النظام الإقليمي الجديد الذي تنوي بناؤه في ضوء مصالحها الإستراتيجية. فالكل يتودد للأميركي ويريد شراكته وخدمته.

ما هو أكيد أن الدول العربية على اختلافها ليست بين اللاعبين الإقليميين الذين تحجز لهم واشنطن مكاناً وهم : إيران وتركيا وإسرائيل.

والسبب هو هذا التمزق العربي وغياب الرؤية وإنعدام التضامن والإلتهاء بالخلافات العربية – العربية. وهذا ما ينعكس سلباً على القضية الفلسطينية وعلى التوجه الدولي لتحقيق سلام شامل وعادل وكامل وإقامة الدولة الفلسطينية. وهذا بدوره عامل سلبي في كيفية تعامل الإعلام العربي مع الموضوع الفلسطيني، ذلك أن هذا الإعلام منكفئ على الإهتمام بمشاكل كل نظام سياسي ومتاعبه الداخلية، خصوصاً وأن الإعلام العربي عموماً هو إعلام النظام والحاكم ويفتقر الى الإستقلالية السياسية والمالية ومحكوم بالتوجهات الحكومية التي تحدّ من حرية التعبير وتتحكم بالمعلومة ولا يهمها تلبية حق المواطن بالإطلاع والإستطلاع الذي تفرضه الدساتير وقوانين الإعلام والأعراف الدولية.

المفارقة الراهنة أنه في الوقت الذي بدأت فيه الشعوب في الغرب تدرك خطورة الإستيطان والسياسات الإسرائيلية العنصرية وتعترض عليها بفضل ما يبديه الشعب الفلسطيني من إنتفاضات متتالية، في هذا الوقت بالذات نلمس ظاهرة التراخي العربي والتقصير. فالإعلام العربي في مكان آخر. ولا يقوم بواجب تسليط الضوء على الحدث الفلسطيني علماً بأن هناك مئات القنوات التلفزيونية الفضائية العربية التي تتلهى بمواضيع ثانوية وهامشية وإلهائية. والسبب ليس من قبيل المصادفة بل هو نتيجة سياسات مقصودة، تسهّل عملية العبور الى التطبيع وقبول دولة الكيان الصهيوني كأمر واقع في مكونات المنطقة الأساسية.

من ضمن سياسات الأمر الواقع الإعلامية أن هناك مخالفات جوهرية تقع ولا أحد يعترض عليها على مستوى الأنظمة. إذ أصبحنا نشهد على شاشاتنا مقابلات يجريها مراسلون داخل الكيان الإسرائيلي. وهذا ممنوع بالقانون لأن فيه ترويجاً للعدو.

من أوجه التقصير الإعلامي العربي غياب التوجه الإعلامي لتعميم معلومات عن القضية الفلسطينية من جانب مؤسسات إعلامية عربية تكون مصدراً لمعلومات تستفيد منها القنوات الغربية ووكالات الأنباء. فمن أصل ما يقارب 400 شركة إعلامية أولى في العالم ليس هناك من شركة عربية أو إسلامية، فغالبية هذه الشركات أميركية وأوروبية وموجود فيها بقوة اللوبي اليهودي. وحده الحدث الفلسطيني الممزوج بدم الأطفال وتهديم البيوت وجرف المزروعات واجتياح الأقصى وغزوات المستوطنين، وحده هذا الحدث يستحضر الإعلام. فأدبيات "الربيع العربي المزعوم" إعلامياً تستبعد العدو الإسرائيلي وتعطي الأولوية للعدو القريب الذي هو من داخل النسيج العربي نفسه. ولعلّ هذه الحقيقة أدركها مبكراً الإمام السيد موسى الصدر في الموضوع اللبناني وحذّر منها حيث إعتبر أن الفتنة الأهلية لا تخدم الإ إسرائيل. ففي الفتنة إقتتال داخلي وفي مواجهة إسرائيل يتحد اللبنانيون والعرب. ولعله في تجربتي تلاقي المقاومتين اللبنانية والفلسطينية ما يؤكد على أن الطريق الى تحرير الأرض هو وحدة البندقية وصوابية الرؤية وقيام التضامن العربي. وواقع الأمر أن الإعلام المقاوم أثبت أنه من الفعالية بما يوازي فعالية العمل المقاوم المسلح إذ أنه يظهرّه ويُعَّرف به ويثبت هشاشة النظرية الإسرائيلية القائلة بأن الجيش الإسرائيلي لا يُهزَم.

فالكاميرا التي تواكب المقاومين هي أحياناً لها فعل الرصاص وأكثر، إذ تكشف معنويات العدو المنهارة وتبرز جوانب التفوق عند المقاومين أصحاب القضية العادلة.

أياً يكن الأمر وخارج حسابات الأنظمة السياسية الصغيرة، يمكن للإعلام أن يخدم في جوانب محدّدة ذات طبيعة إنسانية مثل الإستيطان وإبراز مخاطره. قضية الأسرى في السجون الإسرائيلية. فضح السياسات الإسرائيلية. تثمير الرأي العام الغربي المتعاطف مع القضية الفلسطينية. الإبتعاد عن إثارة الطوائفية والهواجس والغرائز. التشجيع على الحوار والتلاقي بين المكونات الداخلية سواء في المخيمات الفلسطينية أو خارجها. محاولة الحؤول دون إمتداد الإنقسامات العربية الى الداخل الفلسطيني والدفع بإتجاه التلاقي بين السلطتين في الضفة الغربية وغزة وتشكيل حكومة فلسطينية موحدّة تشمل كل المكونات الفلسطينية.

ما يهمّنا لبنانياً هو أن يقوم الإعلام اللبناني بمهمة إطفاء الحرائق الطوائفية والتركيز على ما يجمع. وطالما أن هناك إجماعاً لبنانياً فلسطينياً على رفض التوطين فإن ذلك لا يغني من ضرورات أن تتحمل السلطات اللبنانية مسؤوليتها إزاء سكان المخيمات سواء لجهة إقامة البنى التحتية للكهرباء والمياه والصرف الصحي أو لجهة إتاحة الفرصة في الحياة الكريمة وفرص العمل.

بإختصار، يرتبط الإعلام بالوظيفة التي تعطى له. فإما أن يكون بنّاء أو يكون هداماً. نأمل أن تكون وظيفة الإعلام هي البناء في الموضوع الفلسطيني وخصوصاً أن العواصف التي تمرّ بها المنطقة لا يخرجنا منها إلا التضامن الذي مدخله الأول والأخير هي القضية الفلسطينية وإلاّ فإن المنطقة ذاهبة الى ما هو أدهى والى الغرق في ظلام دامس ودم غزير.

* رئيس المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع