لم يكشف رئيس اركان الجيش الاميركي المنتهية ولايته الجنرال ​ريموند اوديرنو​ سراً حين قال ان تقسيم ​العراق​ قد يكون الحل الوحيد(1). فحتى يوم امس، كان اوديرنو يمارس مهامه كرئيس للاركان قبل ان يتقاعد، وبالتالي هو يعلم تماماً عما يتكلم، وليست المسألة "زلة لسان" او توقعات وحسابات، بل خطة ممنهجة وضعت قبل وقت طويل، ويبدو ان الوقت قد حان لتطبيقها.

الرجل العسكري غالباً ما يعاني في الدبلوماسية والسياسة، فهو يفضل التعامل دوماً مع معطيات ملموسة واذا كان له ان يتوقع فتكون توقعاته عسكرية بحت ويبنيها وفق خبرته الميدانية وقراءته لتفكير العدو والخطط التي يمكن ان يضعها.

توقع اوديرنو "الا يشبه العراق ما كان عليه في السابق"، لم تخفف من جديته تصريحات رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي الذي وصف كلام الجنرال الاميركي بأنه "غير مسؤول ويعبر عن جهل بالواقع العراقي"، فالمعطيات على الارض تقول بعكس ذلك.

اولاً يعتبر العراق الدولة الاسهل لتنفيذ مشروع التقسيم الذي سيطال المنطقة، فسوريا لا تزال في خضم الحرب ومن المبكر حالياً تحديد مناطق النفوذ لكل جهة، واليمن لن يعود كما كان رغم بوادر "حسن النية" الايرانية الاخيرة، والاردن يعيش هاجس الفلسطينيين ويضغط بكل ما اوتي من قوة من اجل ابعاد شبحهم عنه، فيما لبنان ليس بالبلد الكبير الذي يمكن تقسيمه، كما انه البلد الاكثر تأثراً واشتعالاً عند الحاجة.

ولعل رئيس حكومة كردستان نيجيرفان بارزاني كان اكثر صراحة ووضوحاً في تجسيد ما قاله الجنرال اوديرنو، حين شدد على وجوب تحرير سنجار وضمّها الى كردستان، وكأنه يوضح ان الدولة الكردية المقبلة ستتوسع وستكون حدودها مع تركيا اكبر من حيث المساحة، فيما تمت الدعوات الدولية للاسراع في توحيد الجهود من اجل معالجة مشكلة رئاسة اقليم كردستان.

من جهتها، لم تتأخر انقرة في المشاركة في هذا المشروع التقسيمي، حيث اصرت على اقامة منطقة عازلة داخل سوريا تردد انها ستشمل عفران وجرابلس فيما بدأت بالفعل اجراءات بناء جدار اسمنتي على الحدود السورية في محافظة هاتاي الجنوبية، مؤلف من الواح اسمنتية متحركة بارتفاع ثلاثة امتار تمتد على مسافة 8 كيلومترات.

لعل كلمة السر للاعلان عن هذا المخطط التقسيمي بدأت فور التوصل عملياً الى اتفاق نووي مع ايران، وهو ما اقلق الخليجيين لان المرحلة الجديدة التي سيمرون بها لم يخوضوا مثلها من قبل وتأتي في ذروة الصراع السني-الشيعي، وذلك رغم كل التطمينات التي حصلوا عليها من الغرب وحتى من ايران بأن الصورة الجديدة للمنطقة لن تؤثر على نظام الحكم في هذه الدول، ولو ان الدور الايراني سيكون اكبر بنسبة مهمة.

ولعل العنصر الاهم الذي يقلق دول الخليج، هو ان ايران حالياً تتمتع بنفوذ وتواصل ممتاز مع الشرائح الشيعية في الخليج، وقد اثبتت قدرتها على ذلك من خلال التحركات التي قام بها الشيعة في اكثر من بلد وصولاً الى التحرك الاهم والاكبر في اليمن، والذي ايضاً بدأ يتقلص برغبة ايرانية واضحة ورسالة الى اكثر من اتجاه على القدرة على السيطرة على هذه التحركات في كل الدول الخليجية.

في المقابل، لا تستطيع الدول العربية وتركيا السيطرة بهذا الشكل الدقيق والمنسق والعالي على الجماعات السنية التي خلقتها والتي خرج منها البعض عن السيطرة وبدأ ينادي بالاستقلالية ويشكل خطراً على الخطة العامة الموضوعة، وكان لا بد من التدخل الخارجي لانهائه دون ان يتم تحديد وقت دقيق لهذا الامر.

باختصار، اعطى التصريح الصادر عن الجنرال اوديرنو مؤشراً واضحا لا لبس فيه لانطلاق عملية الشرق الاوسط الجديد بشكل علني ويبدو ان الخطوة الاولى على هذا الطريق ستكون من العراق.

(1) بتاريخ 13/8/2015، قال الجنرال ريموند اوديرنو: "أعتقد أنه يعود إلى الشخصيات السياسية والدبلوماسيين أن يروا كيف يمكن لتقسيم العراق أن يجري، ولكن هذا أمر يمكن أن يحصل". وأضاف: "ربما يكون هذا الحل الوحيد ولكني لست مستعدا بعد لتأكيده".