لن يحجب خبر اعتقال ​أحمد الأسير​ المسار السياسيّ المنطلق من خطاب الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله وحديث رئيس تكتّل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون، بل هو جزء أساسيّ منه. وغالب الظنّ إنّ الاعتقال مسكوب في إطار سياسيّ مرتبط بتغيير قواعد اللعبة في المنطقة بأسرها، ومن ضمنها تدخل منظومة الحرب على الإرهاب، كما كان وجوده وتنامي حراكه واستظهار خطابه وابتداع حروبه في صيدا وصولاً إلى الأحداث في طرابلس وعكار وصولاً إلى عرسال مسكوبًا كلّه في إطار سياسيّ مختلف شاء استهلاك لبنان واستعماله ورقة في صراع المنطقة واستلحاقه بها، كادت تودي بهذا البلد الصغير نحو دمار شامل. لقد كان أحمد الأسير جزءًا من سلوكيّات الحرب في سوريا وعليها، كما في السلوكيّات عينها سعى مع كل القوى التكفيرية نحو استدراج لبنان إليها وقد استدرج في أكثر من موقع، من صيدا إلى عرسال مرورًا بطرابلس وعكّار، عدا عن المتفجرات الكثيرة في الضاحية الجنوبيّة من بيروت. وكمعطى واقعيّ تشير بعض المعطيات بأنّ المشهد قد اختلف بكليّته في التوزّع ما بين أوراق القوّة وأوراق الضعف، فتبدّلت قدرة توظيف الأوراق من ضفّة إلى أخرى مع تبدّل الاتفاقات والرؤى، فأبطلت المفردات السياسيّة المتدحرجة والحديثة في هذا الزمان الراهن، ما كان سائدًا كما أبطلت قدرة الحراك، منطلقةً من جوف المنظومة الدوليّة الواسعة، ومطلقةً في الحيّزين الإقليميّ واللبنانيّ عهدًا جديدًا بات منتظرًا.

أوساط سياسيّة تابعت التطورات في الحقبة الأخيرة، وفور سماعها نبأ اعتقال أحمد الأسير من مطار بيروت الدوليّ، تملّكها العجب لسرعة العمليّة ودقّتها وتوقيتها. كان التوقيت هو البحث الجوهريّ نظرًا لدقّة النقاش السياسيّ في الداخل بين الفرقاء، وبخاصّة بعد خطاب للسيد حسن نصرالله ببعده الاستراتيجيّ الداخليّ وهو في بعض مندرجاته تأسيسيّ. لم تشأ تلك الأوساط الربط بين حدث الخطاب من جهة وحدث الاعتقال من جهة أخرى من زاويّة حسيّة، بل شاءت القول بأنّ المناخ العام المتأتّي من الاتفاق الإيرانيّ-الدوليّ متداخل إلى حدّ بعيد بالأوراق المستعملة ما بين سوريا ولبنان، وقد حان وقت التخلّص منها، والانتهاء من أدوارها. وتبدي تلك الأوساط في مسرى النقاش حجّة دامغة حيث اعتبرت بأنّ أحمد الأسير كان في لبنان يتجوّل بوجوه مختلفة هي أقنعة الاحتجاب خوفًا من الانكشاف، فلم تعمد الدولة البتّة على اعتقاله، وقد كانت تعلم بوجوده وحراكه، في مناطق محدّدة، لكنّها تريّثت بالمطلق حتى آن الزمان الجديد فاعتقلته، كما أنّ الأسير وبحسب الأدبيّات الحديثة الصادرة عنه كان يعلم بأنّ ساعته قد دنت، بحسب قراءته المتغيّرات الكبرى، وقد حوصر في عمقه الأمنيّ الخاصّ به.

وفي بعض المعلومات التي توضّحت من بعض المصادر، وقد تحتاج بدورها لتدقيق، بأنّ الأسير خلال التحقيق معه اعترف بأنّه كان يتقاضى من السعوديّة راتبًا شهريًّا قدره مليون ونصف دولار. وعلى افتراض بأنّ المعلومات كانت صحيحة أو مبالغ بها، فإنّ السعوديّة من خلال بعض الرموز المتطرفة من الأمير بندر بن سلطان أو وزير الخارجية السابق سعود الفيصل استهلكت تلك الأوراق وموّلتها وأسست لحراكها من خلال إدارتها، وعمدت على ترسيخها في جوهر الخطاب السياسيّ اللبنانيّ والسوريّ، بوجه النظام في سوريا و"حزب الله" في لبنان وسوريا معًا. الأسير و"جبهة النصرة" والآن "جيش الفتح"، جزء من حرب مفتوحة في داخل كلّ قطر وفي إقليم تحاول السعوديّة أن تبدو بأنّها حامية المسلمين السنّة في العالمين الإسلامي والعربيّ في ظلّ صراعها مع إيران. وفي متن الصراع، إنّ ترسيخ الطائف المهترئ بحكم الممارسة السياسيّة الشاذّة في لبنان هدف كبير، فهو كتب للمسلمين السنّة على وجه التحديد، وهي شاءته لهم في لبنان.

لهذا لن يحجب خبر اعتقال الأسير المسار السياسيّ بكلّ النقاش السائد وأبعاده المتراكمة. بل سيكشف صوابيّة الأدبيات الجامعة بين الحرب على الإرهاب من جهة وترسيخ الشراكة بين المسلمين والمسيحيين في لبنان وفي المدى العربيّ، وهذا عينًا ما يرفضه المتطرفون والأسير كان جزءًا منهم في خياراتهم ليس السياسيّة فحسب بل العقائديّة الجامدة، وقد أبان بعض العلماء بترجيح محقّ بأنّ العقيدة هي المحرّكة للخطوات السياسيّة، أي هي الجوهر. والحرب المذهبيّة التي اتسعت دائرتها بين العراق وسوريا ولبنان إلغائيّة بامتياز ببعدها العقيديّ لكلّ آخر، وهذا ما انتهت إليه الوقائع من تهجير وقتل وتدمير. سيبطل الزمان الجديد ما ساد قبله. سيلفظه في محطّات تأسيسيّة، لبنان عنوان كبير من عناوينها، بحيث لا يمكن عزل أحد أو كسره، ومن ثمّ القضاء على رموز الإرهاب بمسمياته، وقد أعطيت الموافقة على ذلك، من المراجع الأمنيّة الدوليّة، واعتقال الأسير بداية الغيث، في ترابط واضح بين العناوين في جوهر واحد لا حياد عنه، ألا وهو القضاء على الإرهاب بكلّ مفاعيله ومن ثمّ تأسيس نظام سياسيّ جديد.

وفي هذا السياق أسف مصدر سياسيّ كبير بأنّ بعض الفرقاء السياسيين لم يتعلّموا من التجارب السياسيّة القائمة على العزل والانعزال، وبسببها دخلنا عصر الحروب المتنقلة على الأرض اللبنانيّة. عزل كمال جنبلاط والحركة الوطنيّة آنذاك حزب "الكتائب اللبنانيّة" فماذا كانت النتيجة؟ انقلب السحر على الساحر. لن يهضم السياق الفاقع في المدى اللبنانيّ، كما لم يهضم من قبل. ويشير المصدر السياسيّ إلى أنّ نصرالله في خطابه الأخير تلقّف خطورة الواقع بحلقاته المغلقة، وأدرج فهمه، بحسب المصدر المذكور، بأنّ الساحة لم تعد ساحة تسويات، بل ساحة حسم للصراع من الميدان إلى الطاولة، مع توسّع آفاق فريق على حساب فريق آخر بالمعايير الاستراتيجيّة التي اتبعت في الصراع والانعطافات النفسيّة. لكنّ المصدر توقّف عند عبارة "المعبر" مليًّا مظهرًا بأن ليس فيها تغيير أو تبديل لرؤية السيد تجاه ترشيح العماد عون لرئاسة الجمهوريّة. منذ شهر كان الشيخ نعيم قاسم حاسمًا وجازمًا، حين قال بأنّ عون هو المرشّح الوحيد لرئاسة الجمهوريّة. ويوم الجمعة الفائت انطلق خطاب السيّد من الرؤية عينها حين رسم الحدود الفاصلة. "العماد ميشال عون معبر إلزامي لرئاسة الجمهوريّة... ومعبر إلزامي لمجلس الوزراء". ويظهر المصدر أهميّة الكلام باعتبار الانتخابات الرئاسية ومن زاوية داخليّة لن تحصل إذا لم يتمّ الاعتراف بحقّ العماد عون في الترشّح وفي أفضليّته كممثّل للوجدان المسيحيّ بأكثريّته الساحقة، وإذا شاء عدم الترشّح فهو من يسمّي، وفي ذلك يبقى عون المرشّح الأوّل ليس في ذهن حزب الله بل في ذهن جزء هام من الشريحة المسيحيّة، من دون أن ننسى تسليم رئيس حزب القوات سمير جعجع بهذا الحقّ، وهو لم يرفض من على باب بكركي انتخاب العماد عون شرط الاتفاق على المضمون السياسيّ. ويفسر المصدر أيضًا قول السيّد بأنّه معبر إلزاميّ لمجلس الوزراء، أي أنّ أعمال المجلس لن تستقيم بتحديد الصلاحيّات وصولاً إلى التعيينات بلا وجود العماد ميشال عون والاعتراف به وبحقّه. بمعنى أنّ السيّد أعاد الاعتبار إلى مفهوم الشراكة الكاملة بين الطوائف اللبنانيّة في تكوين النظام السياسيّ للبنان، ومن دونها ليس من وطن، فلا يستقيم بطائفة قائدة حاكمة أو طاغية وأخرى خاشية. بل هناك طوائف ستتلاقى من جديد على تأسيس لبنان برؤية وقراءة جديدة، ستتوسّع إلى المنطقة في الزمان الآتي فور تجذير الاتفاق على الأرض المشرقيّة بالآفاق السياسيّة والأمنيّة، وقد بدأ التجذير بالقضاء على الرموز الإرهابيّة، وأحمد الأسير أحد كبار رموزها.