من بيروت إلى موسكو، ومن بغداد إلى عواصم الدول الخليجية العربية وصولاً إلى العواصم الأوروربية، تنشط الدبلوماسية الإيرانية في سياسة مكوكية حثيثة لإطفاء الحرائق المشتعلة في الدول التي استهدفها "الربيع العربي"، بعد أن تخطّت تلك الحرائق في أخطارها الأنظمة والحكومات، وباتت تهدد وحدة الأرض والشعب لكل من تلك الدول.

يتحرك الإيرانيون تحت شعار التمسك بالحل السلمي لأزمات المنطقة وصراعاتها، رافضين الاتهامات التي توجه إليهم، ويؤكدون في كل مناسبة أن "ليس هناك هلالاً شيعياً" يعملون لتحقيقه (حسب ما يروج الأميركيون وأتباعهم) بل قمر إسلامي يقضي بالتوحد معاً لمواجهة التحديات والمخاطر.

تُعتبر المواقف الإيرانية فرصة للدول العربية التي تورّطت في سفك الدماء العربية، للخروج من مأزقها الذي يتعمّق يوماً بعد يوم، بعد أن انقادت لمشروع "الشرق الأوسط الجديد" الذي دعت إليه الولايات المتحدة، وكان قائده الميداني ومنسق أعماله اليهودي الصهيوني الفرنسي برنار هنري ليفي؛ "مايسترو" نشاطات ذلك "الربيع الدموي"، والخطيب الأول في ساحاته، وصاحب الصلاحيات المطلقة في التجوال على أماكن المسلحين ومواقع الاقتتال، خصوصاً في مصر وليبيا وتونس وغيرها.

ولا يترك الإيرانيون مناسبة إلا ويوجّهون فيها رسائل لمن يعنيهم الأمر بضرورة التوقّف عن أعمال تدمير المجتمع العربي، والممتدة من الجزائر وتونس وليبيا ومصر، وصولاً إلى اليمن والعراق وسورية، وقد تمتد إلى أماكن أخرى، ويطرحون مشروعاً بديلاً يقضي بتحصين دول وقوى محور المقاومة في وجه السياسات الأميركية والأطلسية، وفي وجه العدوانية الصهيونية، على قاعدة منع تقسيم الدول، والتأكيد على الوحدة الوطنية فيها، وإعادة توحيد الرؤية وتصليب الموقف العربي والإسلامي حول القضية المركزية فلسطين، بعد الجهود الحثيثة التي بذلتها الولايات المتحدة و"إسرائيل" وحلفائهما لحرف الأنظار عن الصراع العربي - الصهيوني، عن طريق إشعال فتن متنقلة في كل بلد ومنطقة، وتخصيص المشرق العربي بفتنة سنية - شيعية تُلهي العرب لعقود طويلة عن الخطر "الإسرائيلي"، وتشكّل فرصة للبعض لإشهار علاقاته السرية بالكيان الصهيوني، بما يريح هذا الكيان الغاصب، ويطيل عمره، ويساعده على التخلص من التحديات التي تضيّق الخناق عليه.

أبرز تلك الدول التي يتوجّه إليها الخطاب التصالحي الإيراني، هي المملكة السعودية، ذات الحاجة الماسة إلى حلفاء وأصدقاء جدد، تحاول أن تجدهم في موسكو؛ في سياسة هروب إلى الامام، لكنها لن تجد مفراً من ملاقاتهم في طهران، خصوصاً بعد أن تفجّر الصراع بين العائلة السعودية الحاكمة والحالة "الوهابية" المتطرفة، وبات ظاهراً في العلن، امتداداً من محاولة اغتيال محمد بن نايف منذ أكثر من عقد من الزمان، وصولاً إلى تفجير مسجد "الطوارىء"، وما بينهما من أعمال تخريب، كان يعقب كل منها اعتقال العشرات، وحتى المئات، من المحسوبين على "السلفية الوهابية". وإذا كان التحالف قد توثّق مع "الوهابية" خلال حكم الجيل الأول من آل سعود، فإن رتق أي خلاف بين الحليفين التاريخيين كان ممكناً خلال عهود الجيل الثاني من أبناء العائلة الحاكمة، لكنه تفجّر وبات دموياً في زمن الجيل الثالث، لأسباب موضوعية كثيرة.

هذا التحوّل التاريخي في العلاقات السعودية "الوهابية" ليس الفشل الوحيد للسياسة التي سارت عليها المملكة خلال العقود الاخيرة، بل إن سياسة المملكة واجهت فشلاً في العراق وسورية ولبنان، وعلى حدودها جار لدود هو الأردن، في حين لا تنفك إمارات وسلطنات الخليج عن إرسال إشارات التمايز عن السياسة السعودية.

وفي اليمن، رغم مرور خمسة أشهر من التدمير المنهجي لكل مقدراته، ما يزال اليمنيون يسيطرون على الحدود، ويهاجمون يومياً المواقع العسكرية السعودية، في حين أن الأميركي ودول الغرب يتهافتون على طلب ودّ طهران، والروس والأميركيون يدعون "كل الأطراف في المنطقة إلى التعاون مع إيران كشريك"، ما يضع المملكة أمام خيارين: إما استمرار حال التآكل الداخلي وخسارة الهيبة في الخارج، وإما البحث عن حلفاء في الخارج، يساعدونها في مواجهة التحديات المتصاعدة، وبالطبع، لن يكون الحل عبر الهروب إلى الامام والتحالف مع العدو "الإسرائيلي"، كما ينادي البعض، بل يكون عبر تحسين العلاقات مع الجوار العربي والإسلامي بما يحل مشاكل الجميع.