تُثار عدة اسئلة اشكالية حول السبب الاساس في تمدد تنظيم "داعش"، والخلفيات المساندة لهذا التمدد، الاّ ان الاجوبة لا تخلو أيضاً من اشكاليات. وبين هذا وذاك، كُتبت أبحاث ومقالات تناولت "أسطورة الحرب على الارهاب" على أنها كمفهوم، العلة الاساس في محور هذه الاشكاليات، وفق دلالات عملية تقودنا لفهم بواطن خفايا وأسباب "ظاهرة الارهاب" بمسمياتها.
في الواقع، فان الاوساط الاكاديمية منكبّة منذ زمن قريب على البحث عن أسباب فشل الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها في تحقيق أهدافهم المعلنة من حربي أفغانستان والعراق، وكذلك في الحرب على العراق وسوريا، وهو الفشل الذي تجلّى في ظهور تنظيم "داعش"، حيث ان تدخلات الولايات المتحدة الأميركية "المتفلتة" من القيود في منطقة الشرق الاوسط اضافة الى دعمها لزعماء دول ينتهجون سياسات طائفية، أديا الى انعقاد نطفة التقسيم في المنطقة وهي في طور التبلور مع اتساع نطاق تمدد هذه التنظيمات المتطرفة.
وبالعودة الى الوراء، الى زمن الحرب الأميركية على العراق ومن قبلها أفغانستان، فان أي باحث متتبع لما حدث في تلك المرحلة، سيخلص الى ان تداعيات الحرب الأميركية على العراق، وتقديرات الغرب الخاطئة في الأزمة السورية، هما من العوامل الاساسية التي أدّت إلى ظهور تنظيم "داعش".
وليس بعيداً القول، ان تنامي التيار التكفيري المسلح في الشرق الأوسط، يعود في بدايته الى ثمانينيات القرن المنصرم، حيث تصاعدت حدّة الصراعات المسلحة في منطقة الشرق الأوسط، وتعددت جهاتها.
وبذريعة التخلص من القوات السوفياتية في باكستان آنذاك، قامت الولايات المتحدة والسعودية بدعم جماعات مسلحة في تلك البلاد بعنوان "القتال من أجل الحرية"، التي أصبحت فيما بعد "طالبان" التي تشربت من ايديولوجية تنظيم "القاعدة".
التجربة الأميركية في افغانستان وباكستان تكررت بمفاعيل سلبية أقوى في العراق، بعدما شنّت الولايات المتحدة حرباً بشكل أحادي ومن دون غطاء دولي قانوني وشرعي. هذه الحرب مكّنت تنظيم "القاعدة" من إيجاد موطئ قدم جديد له في الشرق الأوسط، بذريعة مواجهة الاحتلال الأميركي في العراق.
وللتوضيح بشكل أكثر شمولية، وفي اطار مخطط يهدف للتقسيم مبرمج عبر عدة مراحل معدّ لها سلفاً، يبدأ بدعم أميركا لجماعات معبأة ايديولوجياً بنفس طائفي ومستعدة للحرب والقتال على خلفية ما عانته من ظلم وتهميش، ثم يتلاشى هذا الدعم، حين يقوى عضد هذه الجماعات، لتبدأ همروجة أميركية أخرى بعنوان مواجهة خطر تمدد تنظيم "القاعدة" في العراق، وهذا كله يصب في اطار تآكل الارضية الشعبية السيادية لصالح تقسيم الدولة وفق الانموذج الطائفي وهذا ما لا تغفل عنه الادارة الأميركية لأنه الاولوية والهدف عندها.
اذاً، الحرب الأميركية على العراق، ليست كما يكتب هنا وهناك، انها فشلت أميركياً، بل حقيقة الواقع، تدل ان ما يدور في بلاد الرافدين هذه الايام من حرب ضروس تشهدها ليست الاّ امتداداً غير شرعي من حرب بوش الابن آنذاك، حيث اتضح ان العقل الأميركي مازال ينظر الى العراق بنظرة تقسيمية. ولتنفيذ هذا المشروع، بدأ أولاً بتفكيك عناصر سيادته بعد القضاء على صدام حسين، ثم باشغاله بنيران الفتنة عبر جنود ممولين فكراً وممارسة، لينتهي الامر بتقسيم العراق إلى ثلاثة أجزاء: الأكراد في الشمال الشرقي، والسنة في الوسط، والشيعة في الجنوب.
والبغدادي، حاكم تنظيم "داعش" في تلك البلاد، استثمر في المشروع الفتنوي أواخر عام 2013 في الانبار، لترسيخ وجود التنظيم في العراق، والتمهيد لاحتلال المدن العراقية، والاستيلاء عليها. وبالتزامن، فان العقل الأميركي أمر أيضاً بافتعال اقتتال طائفي في سوريا، مما وفّر للبغدادي العديد من المسلحين، وفرصة جديدة لصعود وتمدد تنظيم "داعش"، سواء على المستوى الأفقي، أو الرأسي.
وبالفعل، فان حراك التيار التكفيري في الشرق الاوسط متشابك الى أبعد الحدود، ومترابط ضمن منظومة يظنّ الواحد منّا أنها دائرية الشكل حلزونية المضمون. وأحد الامثلة على هذه الحالة وأحد أفرادها، الخوض في مسيرة "أبي مصعب الزرقاوي"، الذي انضمّ الى مسلحي أفغانستان عام 1989 في أواخر حربهم ضد السوفيات، ثم توجه إلى العراق، عقب الغزو الأميركي له، ليؤسس "جماعة التوحيد والجهاد"، التي أصبحت فيما بعد فرعاً لتنظيم "القاعدة" هناك، حيث قاد أعمال عنف وحشية، حتى مقتله عام 2006، هذا المثال يوضّح بشكل لا لبس فيه، أن الادوات التكفيرية المستخدمة أميركياً منذ أفغانستان حتى العراق، تنتقل بأمرة أميركية، حتى انقطاع الامل منها، لتُقتل بأداة حادّة من صانعها.
بعد هذا السرد، لا مجال إلاّ القول، إن تصاعد وتيرة التقسيم وفق المنظومة الطائفية في العراق، وعنيت مصطلح المنظومة لما في ذلك من دلالات، مهّد الطريق لصعود تنظيم "داعش"، بتدبير أميركي، لكنها فشلت -أي أميركا- في رؤية أن دعم وجه الارهاب في سوريا سيتسبب في زعزعة استقرار العراق والمنطقة بأكملها، لتخوض جولة جديدة من الحرب الطائفية. وفي سبيل تحقيق مصالحها الخاصة، تحالفت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون مع أنظمة ثيوقراطية مطلقة في المنطقة العربية.
من هنا، نخلص الى ان ادّعاء الحرب على الارهاب ليس الاّ وسيلة لمزيد من توطين الارهاب في سبيل تهيئة الظروف لصعود التنظيمات المتطرفة. فـ "الحرب على الإرهاب"، التي قادتها الولايات المتحدة في المنطقة لعدّة سنوات، والتي أخفقت بشكل كارثي، لأنها لم توقف عملية صعود التنظيمات الإرهابية في المنطقة، بل إنها أسهمت في خلق المزيد من الإرهابيين رداً على العديد من ممارساتها العنيفة التي تستهدف المدنيين أكثر من استهدافها للإرهابيين. هذه الحرب على ما يسمى "الإرهاب" لم تكن سوى غطاء هدفت من خلاله الولايات المتحدة إلى صيانة نفوذها، وضمان هيمنة أجندتها الجيوسياسية للسيطرة على المنطقة، بالإضافة إلى أنها إحدى وسائل الدعاية السياسية، التي يتم ترويجها في مواجهة أزمات الداخل الأميركي التي تهدد بأن تعصف بكبار الساسة هناك.
* باحث سياسي، اعداد اطروحة دكتوراه في العلاقات الدولية والدبلوماسية