تترابط العناوين البليغة المعبّرة عن الواقع اللبنانيّ بما يحدث في ساحة رياض الصلح من تعبير تجاوز حدود الاجتجاج والتظاهر نحو مطبّ جديد فيه خطاب محتجب بات شبه مكشوف ويطلّ بآفاق التغيير الجذريّ للنظام السياسيّ الصدئ والمتهالك والمترهّل. ليست قضية ​النفايات​ هي وحدها المحرّكة بهذا الصراخ، مع العلم بأنّ شباب لبنان وصباياه بجوهر حقيقة وجودهم اللبنانيّ ومعناه كانوا ساطعين كالنور، ناصعين كبياض الثلوج فوق قمم لبنان. لكنّ الصراخ المتدحرج من عالم آخر تحرّك في وسط صراخهم مفتعلا مشكلة متعمّدة مع القوى الأمنيّة بعدما قمعت تلك القوى بغير وجه حقّ المتظاهرين من دون تمييز بين أهل جمعية "​طلعت ريحتكم​" ومؤيدي احتجاجها الصادق وبين العابثين بالأمن لقضم مشروعيّة ما يطالب به هؤلاء، فتمّ الانقضاض على الأمن من جهة وعلى المطالب المتعلّقة بالأمن الاجتماعي، وهو يملك طاقة الانفجار وها هو قد انفجر.

لقد تمّ التحذير عير مرّة من خطورة الانقضاض على العناوين المكوّنة لهذا الأمن والمتحرّكة به، وبخاصّة مسألة النفايات والضمانات للمواطنين، لقد تمّ التحذير أكثر من مرّة من وحش الفساد الساكن في جوف الأمن الاجتماعيّ والسياسيّ، وها هو قد انطلق ليمتصّ بسكناه ما يعود للناس من حقوق. لم تفهم الطبقة السياسيّة خطيئتها الكبرى، وهي بها موغلة في نحر الدولة وبتر السلطة.

اهتراء النظام السياسيّ بهيكليّاته وانفجار الأمن الاجتماعي، من شأنه أن يؤدّي في حقيقة الأمر إلى ما حدث في رياض الصلح في بيروت.

إنّ الفقر والفساد واستغلال المواطنين من قبل الطبقة السياسيّة المؤلّفة لهذا النظام السياسيّ منطلق حتميّ لكلّ انفجار واحتجاج، سيّما إذا كانت الحقوق والتقديمات التي يستحقّها المواطنون لا تعطى وهي غائبة ومشلولة. هل يتذكّر السياسيّون أن في لبنان أحياء يعيش فيها الفقر ويعشش بقوة وهي نزنّر العاصمة بيروت من الأوزاعي إلى النبعة، ناهيك بأحياء كباب التبانة في طرابلس، فماذا فعلت الدولة لقمع الفقر والفاقة في هذه البقع، هل يعيش السياسيون حالة الغلاء الفاحش كما عاشها ويعيشها المواطنون؟

كلّ هذا يحدث في وسط تغييرات جذريّة على مستوى المنطقة بصورة عامّة. هو جزء من صراع كبير في المنطقة شاء بعضهم أو أبوا. وتقول بعض الأوساط المراقبة، بأنّه أثناء التحضير لعمليّة التغيير الجذريّة بين إيران ومجموعة الدول الخمسة زائد واحد، أبلغ الأميركيون منذ ثلاث سنوات بعض المعنيين في لبنان بأنّ هذا النظام المهترئ لم يعد صالحًا بل بات يشكّل خطورة على الأمن الداخلي والأمن الدوليّ. وفي معرض النقاش مع بعضهم، قال الأميركيون وبحسب تلك الأوساط العارفة ما يلي: "لقد تم تأسيس الطائف ليس برعاية سعوديّة كما تتوهمون، السعوديون هم رعاة بالشكل، بل تمّ ذلك بإرادتنا ورعايتنا محاولة منّا لإنهاء الحرب في لبنان بتسوية كسبها السنّة في لبنان على حساب المسيحيين وآخرين، وظلّ لبنان تائهًا خارج إطار التوازن المطلوب ولذلك لا بدّ من تغيير النظام بنظام يعيد التوازن إلى المكوّنات السياسيّة المؤلّفة للبلد". تمّ إبلاغ الموقف عينه إلى السعوديين بأنّ الطائف كحالة بنيويّة وتأسيسيّة للنظام السياسيّ اللبناني لم يعد مقبولاً به في صيغته الحالية، عارض السعوديون التوجّه الأميركيّ على اعتبار أنّ الطائف "أعطي للسنّة في لبنان كامتياز لهم"، إلاّ أنّ هذا الامتياز لم يظهر عاقلاً أو عادلاً، بل ظهر فاحشًا ومتوحّشًا بممارسته السياسيّة والماليّة في التعاطي والتعامل مع المكوّنات الأخرى، وما سبب الأحداث المتلاحقة على الساحة اللبنانية منذ تسعينات القرن المنصرم مرورًا بأحداث 7 أيّار واتفاق الدوحة حتى الاحتجاج الأخير سوى تمتمات صريحة وفصيحة لتلك الممارسات في إطارها السياسيّ والماليّ والاجتماعيّ.

ينسجم هذا التحليل بأنّ المنطقة برمّتها وبعد تلك الأحداث العاصفة مأخوذة نحو حالة تأسيسيّة لا يتمّ فيها تجويف الخطوط التي نشأت عليها منذ سنة 1916 بين الدبلوماسيّ الفرنسيّ فرانسوا جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس، فالتجويف خادم للمشروع الإسلامويّ بقواه ومنظماته التكفيرية فتستلذّه وتستهلكه في تموضع بليغ لها لتسيطر على المنطقة كلّها وتعلنها مجموعة إمارات. الحالة التأسيسيّة تتعمّم بمبدأ المشاركة الديمقراطيّة لكلّ المكونات والأحزاب. وقد تمّ الاتفاق في هذا الصدد بين الروس والإيرانيين من جهة والأميركيين من جهة أخرى بضرورة الخلوص إلى كتابة دستور جديد في سوريا كإطار لحلّ سياسيّ جذريّ يتمّ بحضور الرئيس السوري بشار الأسد وتمّ إبلاغ وزير خارجيّته وليد المعلم بهذا المطلب من ضمن المطالب الأخرى. وفي هذا السياق الشديد الوضوح، ليس لبنان في الحقيقة معصومًا عن حالة تأسيسيّة جديدة تطال هيكليّة النظام السياسيّ وبنيته، إسقاطًا لما اتفق عليه في المنطقة بين القوى الكبرى اللاعبة وفي إطار تجسيد الاتفاق الإيرانيّ-الدوليّ. لبنان جزء أساسيّ من هذا الحراك التأسيسيّ تحت مظلة هذا الاتفاق وفي ظلّ الحرب على الإرهاب. وتشير مصادر متابعة بأنّ الانتفاضة في بيروت في 22 و23 آب هي اللبنة الأولى لتدحرج هذا النظام المتهالك والمتهاوي، لم يعد هذا النظام صالحًا للحياة، فقد شابه العطب وتآكله الصدأ، وتملّكته الفجوات، وطحنه الفساد، واستهلكته طائفة على حساب طوائف أخرى. وبقيت الطموحات بإصلاحات سياسيّة وإداريّة وماليّة واجتماعيّة مجرّد حبر على الورق، مجرّد طموحات وأماني. هذا النظام قد جوّف في الأصل بصفقات مشبوهة ونتنة استفادت منها الطبقة السياسيّة على حساب فقر الناس وجوعهم وأمراضهم وتعليم أولادهم، عزّزت ورسّخت الزبائنية في حين إن تلك حقوقًا تعود إلى المواطنين من دون منّة من أحد. لقد جوّف بصفقات مشبوهة من المرفأ في بيروت، إلى النفايات، إلى الريجي، إلى النفط، إلى مجالس أنشئت بعد الطائف احتسبت لصالح زعامات درّت عليهم الأموال الطائلة واستفاد منها بعض المحاسيب وشيّدت القصور الفخمة لموظفين ومحازبين استفادوا من تلك الحالة واستفاد المواطن فقط من الفتات المتساقط عليه من الموائد كنذر عسير وغير يسير.

احتجاج ومظاهرة بيروت لبنة أولى في مسار تغييري لنظام اهترأ وسقط وغير قابل للحياة بهذا المنسوب المرتفع جدًا من الفساد، ومنطلق لربيع دستوريّ جديد في لبنان والمنطقة، يرسّخ التوازن والعدالة في علاقة المكونات ببعضها وعلاقتها بلبنان ضمن فلسفة التوازن والشراكة الكاملة بين الجميع.