لا يعني سقوط المناقصات انتهاء الأزمة. من المفيد أن القارئ بدأ يدرك بأنّ الأزمة أعمق من كونها أزمة نفايات. النفايات تعبير جزئيّ عن أزمة وجود لبناني متبعثر ونظام سياسيّ متآكل من طبقة سياسيّة نافرة في الشكل والمضمون، فهي تختلف بالناس ولكنّها على الطاولة تمرّر الصفقات فيما بينها بالمحاصصة التامّة، كما حصل في التحالف الرباعي سنة 2005. وفي الوقت عينه أزمة حكوميّة جذريّة بكلّ ما للكلمة من معنى، تفشّت وانفجرت بالمعاني الأخلاقيّة والدستوريّة والميثاقيّة والقانونيّة في اللحظة التي ضرب فيها منطق الشراكة الوطنيّة بين المسيحيين والمسلمين، تشي بآفاتها التواقيع على سبعين مرسومًا هرّبت تحت جنح الظلام، تلك وبتوصيف دقيق خطيئة دستوريّة وقانونيّة تمارس في حقّ مكوّنين جوهريين للبنان.

لقد تصدّى وزراء "حزب الله" و"التيار الوطنيّ الحرّ" و"الطاشناق" لهذا التجاوز الخطير، وهو يرمي بلبنان في دياجير مظلمة وخطيرة بالتماهي مع أزمة المنطقة بأسرها. ما يتميّز به البلد بمؤسساته أنّه تأسس في دستور سنة 1926 والدستور الحالي، على تلك المقولة الواضحة لا شرعيّة لسلطة تناقض ميثاق العيش المشترك. وقد دلّت التجرية اللبنانية على ممرّ العصور، أنّ الفتك بالأسس الميثاقيّة والشرعيّة والقانونيّة آل ويؤول إلى احتراب طويل بل حروب متنقلة. فحين ضرب الميثاق بثورة 1958، وكانت المنطقة تغلي وتلتهب بين حلف بغداد والتيار الناصريّ، انحدر لبنان إلى شفير الحرب، وهكذا دواليك مع اتفاق القاهرة وصولاً إلى بداية الحرب اللبنانيّة التي انتهت بالتأكيد على هذا المبدأ فما بال الحكومة تنزلق نحو هذا الاتجاه وكأنها تدفن وطنها تحت رمال متحرّكة في لحظات تغييرية كبرى على مستوى المنطقة برمّتها؟!

وفي قراءة واضحة مستندة إلى معلومات ومعطيات أدلى بها مصدر معنيّ بهذا الصراع، إنّ "حزب الله" و"التيار الوطنيّ الحر" وبعد يقينهما بهذا التجاوز الخطير ولمسه لمس اليد، يدركان بأن تلك الحكومة لن تكتب لها الحياة في ظلّ أزمة وجود كبرى. لن يسقطها "التيار الوطنيّ الحر" ولا "حزب الله"، فقد سقطت في الشارع مع المتظاهرين منذ تظاهرة ساحة الشهداء وصولاً إلى انتفاضة 22 و 23 آب، ما يحصل وبحسب المصدر عينه بأنّ المكونين الأساسيين لتلك الحكومة غسلا آياديهما من دمائها وهي ليست بصدّيقة، وأخذت إلى الجلد بسياط الشعب في الشارع لتعلق بعد حين على خشبة الخيبات والمرارات التي أنتجتها مع تلك الطبقة المافيويّة المستأثرة بالقرارات السياسية على كلّ المجالات. وعندما يسأل المصدر عن موقف بعض الكتل السياسيّة كـ"حركة أمل" ورئيسها نبيه برّي، فيظهر بدوره ألمًا كبيرًا، لأنّ رئيس المجلس النيابيّ عطّل المجلس النيابيّ لصالح التحالف بينه وبين النواب ​سعد الحريري​ و​وليد جنبلاط​ وفؤاد السنيورة بسعي حثيث ومشترك بل واحد لعدم إقرار مشروع "​اللقاء الأرثوذكسي​ّ" الانتخابيّ، في حين أنّ "حزب الله" كان يدافع عنه بشراسة وصدق وإخلاص وقناعة من خلال المواقف البادية في مناقشات اللجنة التي ترأسها آنذاك النائب ​روبير غانم​. ويكمل المصدر قائلاً: إن هذا التحالف المتين بين تلك القوى المسماة ينطلق من خشيتها من استعادة المكوّن المسيحيّ دوره وحجمه في المعادلة السياسيّة اللبنانيّة، وكل ذلك تمّ بتغطية من رئيس مجلس النواب نبيه برّي بخلاف موقف "حزب الله"، المتشدّد بمبدأ المناصفة وضرورة انتخاب رئيس قوّي للجمهوريّة يمثل بيئته.

ويلفت المصدر عينه النظر إلى أنّ كثيرين لم ينتبهوا إلى فحوى الكلام ومحتواه الشديد الوضوح، والذي ألقاه الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله في الرابع عشر من آب في وادي الحجير مستندًا إلى رمزيّة المكان في فكر الإمام موسى الصدر وحسين شرف الدين. فهو فحوى تأسيسيّ بدأ يتجسّد رويدًا رويدًا من على طاولة مجلس الوزراء وصولاً إلى الشارع، قبل هذا الكلام أعلن نصرالله بأنّه ليس وسيطًا بل هو طرف، لم يصدقوه، لكنّه كشف بأنه طرف تأسيسيّ لحقبة جديدة بدأت تطل من الشارع بغير تنسيق، عنوانها الشراكة وبالتالي إنهاء ما يسمّيه بالآحادية الطائفيّة حين قال لم يعد هنالك من طائفة قائدة، وبوضوح أكثر ليس هناك طائفة تسرق حقوق طائفة أخرى بوجودها وحضورها ومكاسبها. إنّ أفضل تعبير على منطق الشراكة ما يولد اليوم من الشارع بصورة عارمة وجامحة. إنّه المؤتمر التأسيسيّ الحيّ والحركيّ وقد بدأ بحراك الناس في الشارع، خارج إطار النظريات الشكليّة والنظم الدستوريّة والأطر السياسيّة، الشارع يقول قولته والناس فيه من كل الأطياف والنحل من كلّ الطوائف والملل. إنه منطق الشراكة يتجلّى بحلّته الشرعيّة، لكون الشعب وبحسب المبدأ الدستوريّ هو مصدر السلطات وصاحب السيادة أي الولاية، وكلّ سلطة لا تنبثق من الشعب ولا تسطع من جوفه وفكره ورأيه هي سلطة مارقة وقامعة ومتمرّدة، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. ما حصل في مجلس الوزراء يشكل طعنة عجماء في ظهور الناس، ويمكن القول بأنّه تمرّد صارخ على إرادتهم، وهو انقلاب حقيقيّ على مبدأ ميثاق العيش المشترك، فتفقد تلك الحكومة شرعيتها بانقلابها على هذا المبدأ المتمثّل باجتماع الشعب بوجهها، ومتى فقدت شرعيتها فقدت ميثاقيتها وبالتالي قانونيتها فتكون على شفير الموت السريريّ، على الرغم من محاولة سياسيّين معروفين بإرسال شبابهم إلى الشارع لرشق القوى الأمنيّة في محاولة منهم لإنقاذ الحكومة وإنعاشها ممّا يحصل في الشارع من موتها السريريّ.

وعندما يسأل المصدر عن رأيه حول ما إذا قد تبلور قرار دوليّ وبالتحديد أميركيّ بتغيير النّظام السياسيّ اللبنانيّ، يجيب بأنّ الإرادة لحقبة قريبة من الزمن كانت بأن يتعايش الأفرقاء قدر الإمكان في ظلّ هذا النظام على الرغم من اهترائه وتآكله وفساده، لكنّ المرحلة الآن تغيّرت مع بلوغ المنطقة المشرقيّة على وجه التحديد اللحظات التأسيسية الجديدة في ظل ترسيخ الاتفاق الأميركيّ-الإيرانيّ، وفي بعض المعطيات إنّ النظام السياسيّ اللبنانيّ لم يعد قابلاً للحياة في ظلّ الرؤى الجديدة المتجلية في تلاقي الخطوط وتفاعلها إيجابًا في مبدأ الحرب على الإرهاب. هناك سياق عموديّ بات مطلوبًا ترسيخه في لبنان، لا بدّ وأن ينطلق من انتخابات نيابيّة باتت ملحّة وتنتهي بانتخابات رئاسية وكلّها ينبغي أن ترسّخ التوازن إنطلاقًا من ترسيخ المناصفة الفعليّة، عنوان المرحلة المقبلة التوازن والمشاركة وعلى لبنان أن ينطلق بها بنظام جديد يجذّرها ويؤمنها لمكونات لبنان بتوقها إلى كمال سياسيّ يعيد إلى وطن الأرز فرادته ويشرق منها ربيع جديد للمنطقة بأسرها.