لم «يَبْلَع» النائب وليد جنبلاط عبور محافظة السويداء، ذات الغالبية الدرزية في الجنوب السوري، «قطوع» الفتنة والاقتتال، بعد تفجيرين إرهابيين ضربا المحافظة الجمعة الماضي، وأديا إلى سقوط أكثر من 40 شهيداً، من بينهم الشيخ وحيد البلعوس الذي استهدف التفجير الأول موكبه.

اغتيال البلعوس، المعروف بمعارضته للنظام في سوريا وقيادته لمجموعة من مشايخ طائفة الموحدين الدروز تحت اسم «مشايخ الكرامة»، و«المجزرة» التي سببها التفجير الإرهابي الثاني أمام المشفى الوطني، تركا أثراً بالغاً في وجدان أهالي المحافظة التي لم تعتد هذا الكم من الدماء دفعةً واحدة، وشكّلا مادة دسمة لدى مريدي تمرّد السويداء على الدولة السورية كجنبلاط، بغية انفصالها عن دمشق. لكن على رغم التحريض الذي بثّته وسائل إعلام المعارضة والدول الداعمة لها ضد الدولة والأجهزة الأمنية السورية، متهمةً إياها بالوقوف وراء التفجيرين، عاد الهدوء إلى شوارع السويداء في اليوم التالي للمجزرة. وبذلت الفعاليات والمرجعيات الدينية جهداً كبيراً لإقناع أصحاب «الرؤوس الحامية» بالتعقّل و«عدم الانجرار وراء أعداء سوريا الذين اغتالوا الشيخ وحيد لدفعنا إلى الاقتتال مع الدولة»، في ظلّ حرص واضح من مؤسسات الدولة على عدم وقوع أي صدام.

ولم يكن موقف «أهل الدم» أنفسهم، أي «مشايخ الكرامة»، أقل عقلانية من موقف مشايخ العقل أو الشيخ ركان الأطرش، أبرز المرجعيات الدينية الدرزية في سوريا، إذ التزم هؤلاء بدعوات التهدئة وعدم الانجرار إلى الاقتتال المجاني مع الأجهزة الأمنية أو المجموعات المقاتلة إلى جانب الجيش السوري من أبناء السويداء، في ظلّ الخطر الذي تشكّله التنظيمات الارهابية كـ«داعش» و«جبهة النصرة» على حدود المحافظة.

وانعكس موقف «أهل الدم» في نفي اعتدائهم على أيّ من مراكز الدولة أو اتهام أي جهة بالتفجير، وتكرار أكثر من مصدر قيادي في «مشايخ الكرامة» أن «الشيخ وحيد لم يكن لا ضدّ الدولة ولا معها، بل كان يطالب بالحياد». حتى إن «مشايخ الكرامة»، وإن لم تقنعهم كامل الاعترافات التي أدلى بها الموقوف وافد أبو ترابة حول مسؤوليته عن التفجيرين، لم يتهموا الدولة، وعبّروا أمام الجميع أن «أبو ترابة ليس بريئاً، ولديه ارتباطات استخباراتية خارجية».

وعلى عكس «عقلانية» السويداء، لم يتعب جنبلاط طوال الأسبوع الماضي من «النفخ في الفتنة» في محاولة استثمار دم البلعوس، والمزايدة بأشواط على موقف «أهل الدم»، عبر حملة تحريض قادها شخصياً ضد الدولة السورية، كما دأب على التحريض طوال السنوات الماضية. التعاطف الذي يبديه جنبلاط مع مصاب السويداء، يأتي بعدما كان قد حلّل قبل سنتين، في مقابلة مع الزميل مارسيل غانم، «دم الدروز الذين مع النظام»، وبعدما وصف المجزرة التي ارتكبها حلفاؤه في «جبهة النصرة» في حق أهالي بلدة قلب لوزة الدرزية في إدلب، بأنها «حادث فردي»!

اختيار البيك لدار الطائفة الدرزية في بيروت لإقامة موقف عزاء «سياسي» للشيخ البلعوس أمس، لم يأت من هباء، إذ لم يوفَّق رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي في الحصول على غطاء من المرجعيات الروحية في الشوف وعاليه لإقامة العزاء في «مقام الأمير السيد عبدالله» في عبيه، ما دام سَيُوَظّف لتوجيه رسائل سياسية. واشترط المشايخ مشاركة رئيس الحزب الديموقراطي اللبناني النائب طلال أرسلان في العزاء، والتزام الجميع بعدم إطلاق المواقف السياسية، فيما اشترط أرسلان بدوره ألا تلقى أي كلمات بالمناسبة، بما في ذلك شيخ العقل نعيم حسن، وأن يُكتفى بقراءة الفاتحة عن أرواح الشهداء، الأمر الذي لم يستسغه جنبلاط، فقرّر استكمال التحريض وحيداً، إلّا من حسن، ومن على منبر دار الطائفة.

وعلى رغم الحملات الدعائية وتعليق اليافطات والصور والتحشيد الذي مارسه الاشتراكيون في قرى عاليه والشوف والمتن الأعلى وراشيا وحاصبيا، وتأمين النقل المجاني للمشاركين المفترضين في العزاء، وقطع الطرقات المحيطة بمنطقة فردان، إلّا أن «الحشد لم يكن على قدر الجهد والمال والتمنيات»، كما يقول أكثر من مصدر في قوى 8 آذار الدرزية لـ«الأخبار». وبدل أن تنعكس أجواء التعبئة في القرى ارتفاعاً في أعداد المشاركين في العزاء من «المحزونين»، بغض النظر عن موقفهم السياسي، أدى رفع الشعارات المعادية للرئيس والدولة السوريين إلى توتّرات في القرى، لا سيّما في بيصور وعرمون. وبذلك يكون «جنبلاط قد كسر الاتفاق الضمني مع قوى 8 آذار على تحييد الجبل عن الأزمة السورية».

وبحسب أخصام جنبلاط، فإن الأخير أراد استخدام التحشيد المفترض في أكثر من اتجاه: لـ«إعادة شدّ عصب جمهوره بعد الاهتزاز الذي أصاب صورته على خلفية ملفّ النفايات»، و«إقناع السعوديين بأنه يستطيع التأثير في دروز سوريا وتحريضهم ضد النظام ليغطي على مهادنة حزب الله»، والأهم أن «جنبلاط يظنّ أنه قد يُحَصِّل شيئاً، في حال تم تقسيم سوريا، باحتكاره تمثيل الدروز في المنطقة، وهذا يفسّر كَمّ أعلام الخمس حدود التي حملها المعزّون في تعبير عن شدّ العصب الطائفي، بدل أعلام الاشتراكي». إلّا أن اللافت أمس في خطاب جنبلاط، ذي السقف المنخفض لناحية تحييد حزب الله وأرسلان معاً، هو توجيهه رسالة إلى جبل العرب تتضمّن تحية لسلطان باشا الأطرش الثائر ضد الاستعمار الفرنسي، في أول الكلام، وتحية إلى الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في آخره، على «احتضانه الشعب السوري المشرّد»! وسبق لجنبلاط أن ذهب بعيداً في التملّق لهولاند خلال زيارته وابنه تيمور لفرنسا قبل نحو شهر ونصف، حين رأى في تصريح لجريدة «الحياة» أن «الانتداب كان حضارياً»! متناسياً أن هذا «الانتداب الحضاري» دمّر السويداء على رؤوس قاطنيها، قبل مئة عام. والجدير بالذكر، هو تعبير الفرنسيين أمام أكثر من شخصية درزية، بينهم شيخ عقل طائفة الدروز في فلسطين موفّق طريف، عن رغبتهم في استقبال لاجئين دروز، من ضمن «الخدمة لوجه الله» التي يقدّمها هولاند وحكومته في «احتضان الشعب السوري المشرّد»!

ولعلّ الموقف الأبرز الذي عبّر عنه جنبلاط قبل ثلاثة أيام، حين أعلن عدم ممانعته «إقامة إدارة ذاتية في السويداء»، توضّح فحوى الإصرار الجنبلاطي على استغلال دم الشهداء حتى القطرة الأخيرة، بعد أن خيّبت السويداء آماله ولم تسقط في الفتنة. وأعاد الوزير وائل أبو فاعور، خلال زيارته مدير المخابرات الأردنية الفريق فيصل الشوبكي في عمان قبل يومين، الطلب من الأردن وضع يده على السويداء ضمن إدارة ذاتية، في موقف مماثل لما طلبه المعارض السوري كمال اللبواني من الحكومة الاسرائيلية أول من أمس، بإقامة منطقة عازلة على أراضي الجولان المحرّر إلى الكيان العبري!