تتنافس واشنطن وباريس في الدعوة إلى مؤتمرين خاصين بمسيحيي المشرق العربيّ والازيديين بعد المجازر التي لحقت بهم في العراق وجبال سنجار وفي عدد من القرى السوريّة. ويجيء هذا التنافس بصورة غريبة، وبعد غربة دوليّة عن الواقع المسيحيّ في المنطقة، ما خلا مسألة ظهرت فاقعة جدًّا في توقيتها وانغراسها، شكا منها كثيرون، وهي فتح السفارات أمام المسيحيين الراغبين في الهجرة إلى الخارج، من سوريا والعراق وقد سبقهم كثيرون من لبنان ومصر وفلسطين منذ نكبتها إلى الآن.

ثمّة وثائق وكتب نشرت قبل انفجار ​الربيع العربي​ّ، وتحوّله إلى شتاء عاصف بحروب مذهبيّة، وصّف كتّابها ومؤلفوها واقع المسيحيين بإسهاب وشرحوا أسباب تكاثر الهجرة إلى الخارج. من الكتب الأساسيّة والهامة بآفاقها الاستراتيجيّة، كتاب لمؤلّف فرنسيّ هو جان بيار فولون Jean Pierre Valognes ، بعنوان: "مسيحيو المشرق حياتهم وموتهم من النشأة إلى هذه الأيام"، Vie et Mort des chrétiens d’Orient des origines à nos jours صدر سنة 1995 يروي فيه الكاتب وهو الذي زار لبنان وسوريا وفلسطين والأردن والعراق، تجارب المسيحيين بتفصيلٍ كبير، وقد أظهر في روايته وبصورةٍ علميّةٍ وتقريريّةٍ ما ينتابهم من مخاطر نتيجة خشيتهم من تعاظم القوى الإسلامويّة، أو ما عرف فيما بعد بالإسلاموفوبيا، والتي تحوّلت إلى منظمات تكفيريّة رافضة للآخر، نابذة لموقعه، باترة لجذوره، وتشاء، تاليًا، اقتلاعه أو جعله كما يحدث الآن من أهل الذمّة، يدفع الجزية وهو صاغر. ينطلق الكاتب في تقييمه، من فهم دقيق "بأنّ الشرق الأوسط المتوسطيّ، كان حتّى الحقبة التاريخيّة، كأنّه المركز الحقيقيّ للعالم". يمتلئ الرجل من التاريخ المشرقيّ، وبمركزيّته الجغرافيّة مظهرًا الدور المسيحيّ في ترسيخ تلك المركزيّة، وبتحليل واقعيّ كشف بأنّ المسيحيين التحفوا الخيارات القوميّة، والتحقوا بالأبعاد العروبيّة، وتحدّد بعضهم الآخر في المنطق اليمينيّ تحرّرًا من شعورهم بالأقلويّة، والتي جعلتهم وتجعلهم مهمّشين وخائفين.

انتقد فولون كثيرًا من كتّاب وسياسيين لهم مآربهم، لأنه قرأ بواقعيّة شديدة ما يمكن أن يصيروا إليه في واقع الحال، إذا لم يعتبروا كمكوّنات تكوينيّة وجذوريّة، متأصلين في بلدانهم ومشاركين في الحياة الوطنيّة والسياسيّة في إطار من الديمقراطيّة التشاركيّة، أو ما اصطلحنا على تسميتها بالشركويّة. وما عدا ذلك فإنّهم مهددون بالزوال، لأنّ المشاركة تعزّز البقاء. جاءت الأحداث منذ سنة 2003 لحظة الدخول الأميركيّ إلى العراق، أي بعد ثماني سنوات من صدور هذا الكتاب، لتؤكّد مخاوف مؤلِّفه وما زعمه كخلاصة واقعيّة. منذ تلك اللحظة تعرّض المسيحيون للاعتداءات، فيما كان الرئيس الأميركيّ السابق جورج دبليو بوش يعلم البابا السابق ​بنديكتوس السادس عشر​ وبصلف كبير، بأنّ مسيحيي العراق بخير ولم يمسّهم سوء. كيف لم يمسّهم سوء وكنائسهم تعرّضت للتفجيرات العشوائيّة وسقط شهداء وقتل كهنة وأساقفة؟ ألا يعتبر الموقف الأميركيّ منذ تلك اللحظة تغطية واضحة تبيح هجرة مسيحيي العراق على يد الحركات والمنظمات التكفيريّة، وهم من استعانوا بنظريّة صمويل هانتنغتون القائلة بصدام الحضارات ليستهلكوها في توطيد الصدام المذهبيّ في هذا المدى. ما كان الأميركيون أبرياء من هذه الخطة الجهنميّة. فهم أطلّوا من هذا الباب لتعزيز فكرة الانقضاض على المسيحيين العرب، وهي فكرة في أصلها وجوهرها يهوديّة بامتياز. بعض الوثائق التي انكشفت خلال تلك الفترة، أظهرت بدقّة ذلك التماهي الكبير والعميق بين الإدارة الأميركيّة بشقّها اليهوديّ وبالتحديد مع منظمة المسيحيون الجدد New Christians وتلك المنظمات المزروعة ما بين العراق وسوريا ولبنان، في إدارة عمليّة تهجير المسيحيين من هذه الديار. لم تكن خشية المسيحيين عابرة، وليس صحيحًا أنّه لا توجد أزمة مسيحيّة وجوديّة تطالهم بكينونتهم. فالأحداث الأخيرة أكّدت ذلك الزعم، وبخاصّة في السنوات الثلاث الماضية، بالإمعان المتشدّد على قتل كهنة وتشريد الناس وخطف مطرانين وعدم معرفة مصيرهما... وآخر مشهد مؤلم ما يحدث لقرية القريتين وهي في ريف حمص مع تدمير دير مار إليان، وبناؤه يعود للقرن الخامس ميلاديّ، وتخيير المسيحيين بين دفع الجزية أو اعتناق الإسلام أو ترك القرية كما حصل في قرى نهر الخابور والحسكة. وبالعودة إلى الذاكرة المعاصرة لا يمكن نسيان أنّ السفير دين براون مع وزير الخارجية الأميركيّة آنذاك هنري كسينجر خلال سنة 1976، هما صاحبا نظرية تهجير مسيحيي لبنان إلى الخارج. هذا فقط للتذكير عن الإرادة الأميركيّة بصورة حصريّة.

السؤال المطروح بإلحاح شديد، هل استفاق الأميركيون والفرنسيون مجّانًا على تدحرج الواقع المسيحيّ ومدى خطورته، ليدعوا كلّ من موقعه إلى مؤتمر يعنى بمسيحيي الشرق في باريس أو واشنطن؟ أو أن الاستفاقة بحدّ ذاتها مأخوذة إلى نسج خطوط سياسيّة أو خطوط جيو-استراتيجيّة ترتكز كما ظهر في مقالات دوّنت في "النشرة" على التوازن؟

مصادر مواكبة لتلك الخطوتين، تعتبر أنّ المسألة مرهونة بقراءات يجريها الغرب لمصالحه، بعد فهمه الدقيق بأنّ ثمّة إخفاقًا قد بدا بقوّة بعد تنامي القوى المتطرّفة بصورة متوحشّة وتغلغلها نحو الغرب. كان المغفور له ​غسان تويني​ يقول: "لا تظنّوا بأنّ الغرب لا ينام بسبب مسيحيي لبنان أو الشرق، الغرب لا تهمّه سوى مصالحه". الغرب استفاق على مسيحيي الشرق بعدما تأكّد ذلك الخطر الرابض في دنيا العرب، والضاغط من هناك باتجاه الأمن القوميّ، والمدعّم والمموّل من السعوديّة وقطر، والمتماهي بالجوهر مع الرؤية الإسرائيليّة تجاه المنطقة. استفاق الغرب على واقع المسيحيين العرب ليس لأنهم في خطر شديد بل لأنّ مصالحهم باتت في خطر.

وتأتي تلك الاستفاقة على مشارف تسوية جديدة ستبدأ بالرسوخ بدءًا من الأشهر المقبلة، أي بعد ترسيخ الاتفاق الدوليّ-الإيرانيّ، وهو السقف الجديد المتصل بعموديّة الحراك الروسيّ في سوريا، واتضاح موازين القوى في اليمن، وأفول نجم الرئيس التركي ​رجب طيب أردوغان​ في تركيا بعد هزيمته من قبل حزب الشعوب الديمقراطية بزعامة ​صلاح الدين ديمرطاش​. مرجع روحيّ قرأ هذه الاستفاقة على الطريقة التالية: "خير أن تأتي الأمور متأخرة من أن لا تأتي أبدًا"، Mieux vaut tards que jamais وعلى المسيحيين أن يستفيدوا منها قدر الإمكان لإطلاق رؤيتهم والتعبير عن شعورهم وإرادتهم بفهم دقيق. بمعنى أن المصالح يجب ان تتلاقى في ترسيخ وجودنا أكثر والتفاعل في مسألة القضاء على الإرهاب بقوّة، وإظهار الرغبة بالتأكيد على مبدأ الشراكة الوطنيّة في معظم الأقطار العربيّة كما هو حاصل في لبنان، ولو أن الشراكة في لبنان قد هتكت غير مرّة.

وما يجب أن يقوله المسيحيون ليس فقط للغرب بل لكلّ الدول، بأنّ الحضور المسيحيّ مرهون بالقضاء الجذريّ على التنظيمات التكفيريّة، والعالم الإسلاميّ بدءًا من مراجعه الروحيّة مدعو لمحاربته بفقه جديد يبطل الحروفيّة في الدين ويعيد إلى الإسلام القرآنيّ بهاءه وجوهره القائم على الشورى والإحسان والتعاطي الحسن بين الجميع، وصولاً إلى تجفيف ينابيع تمويلها وإيقاف تموينها ودعمها بالسلاح والعتاد، وهذا مطلوب بشكل أساسيّ من الغرب أميركيًّا كان أو أوروبيًّا. والمطلوب بإلحاح صياغةُ نظامٍ جديد في المشرق العربيّ وفي كلّ الأقطار حيث يتواجد مسيحيون، بالتأكيد على شراكتهم الوطنيّة في ظلّ انتمائهم العروبيّ، والتأكيد يجب ان يتجذّر في إطار دستوريّ واضح يحافظ على حقوقهم في الوجود، ومضمون الوجود التفاعل الوظيفيّ والإداري والسياسيّ والعسكريّ. هذا وحده ما يؤكّد بأنّ المسيحيين ملح الأرض ونورها، وما سوى ذلك مضيعة للوقت وتجارة رخيصة بأرواحهم ووجودهم ومستقبلهم.