شكّلت زيارة البطريرك المارونيّ مار بشارة بطرس الراعي إلى منطقة عاليه بقراها من الجرد إلى الساحل واحة لقاء تجدّد ومنطلقًا جديدًا لعيش يتكرّس في الجبل بل لما سمي من قبل لبنان الصغير في ظروف دقيقة يمرّ بها البلد بصورة خاصّة والمنطقة بصورة عامّة. هذا الجبل في تعدديّته المسيحيّة والدرزيّة والإسلاميّة توّاق ليكون مدى لانبعاث جديد تتأكّد فيه وحدة لبنان على قاعدة متوازنة لا شكّ أنّ المناصفة التي طالب فيها كثيرون وأكّد عليها الأمير طلال أرسلان في خطابه السياسيّ خلال عشاء خلدة التكريميّ، أساسية وجوهرية لاستقرار الوحدة ومتانتها. ما لفت كثيرين في هذا العشاء، مضمون خطاب أرسلان، فيبدو تأسيسيًّا لمرحلة يمرّ بها الوطن بصورة دقيقة، وما يجدر فهمه في جوهر المضمون بأن السياق متلبنن بالضرورة من حيث إشارته إلى الأحداث المأساويّة في كفرمتى حين سرد بالتفصيل الدقيق ما حدث خلال الانسحاب الإسرائيليّ الذي مهّد لتلك المجزرة فحصلت وحصدت ما حصدت من قتلى... وأهم ما ذكّر به أمام البطريرك فشل الرجوع إلى المنظمات الدوليّة وجامعة الدول العربيّة، معيدًا الاعتبار إلى معيار واحد أساسيّ وجوهري، الاعتماد على الذات... وذكّر، تاليًا، بالحملات التي يتعرّض لها الكرسيّ الرسوليّ من المنظمة الصهيونيّة وإسرائيل حتمًا، ودخل من البوابة المسيحيّة بخشيته على تهجير هذا المكوّن الجوهريّ.

حمل البطريرك رسالة أرسلان ومضى، وهو ما كان في خطاباته بالمطلق بعيدًا عن تلك الرؤية العميقة والحصيفة، في خطاباته سواءً بالتذكير بالوحدة المسيحيّة من سوق الغرب إلى وادي شحرور فالشويفات بتذكيره بأنّ البطريرك يوحنّا العاشر اليازجي موجود بشخصه، وأي بطريرك يزور كنيسة أخرى هو بطريرك أنطاكية، ومركزًا في الوقت عينه على الوحدة الداخليّة كحصن منيع لاجتياز الأزمات. لقد عاش قضاء عاليه بالفعل عرس اللقاء، بعد زيارة البطريرك السابق مار نصرالله بطرس صفير للجبل وتكريسه المصالحة الوطنيّة بين المسيحيين والدروز. لكنّ تركيز أرسلان على العامل الإسرائيليّ كان الأكثر دقّة، وبدا بحدّ ذاته امتدادًا لقول مأثور للسفير الراحل عادل إسماعيل في كتابه وثائق دبلوماسيّة: "ما من حرب حصلت إلاّ وكانت خلفها أصابع الأجنبيّ"، تلك حقيقة لا يمكن الهروب منها على الإطلاق منذ أحداث 1840 إلى أحداث 1983 بعد الانسحاب الإسرائيلي من الجبل، وهو انسحاب ساهم في تلك الحرب وتهجير المسيحيين من بيوتهم.

حاول البطريرك في زيارته التذكير بضرورة انتخاب رئيس للجمهورية، وهذا ما دأب على إعلانه في كل مناسبة. لكنّ الرؤية تبقى أبعد من ذلك، المشكلة التي تربك فريقًا من المسيحيين تتمحور بأنّ البطريرك لم يعد إلى مذكّرة بكركي في عيد القديس مارون أي في 9 شباط من سنة 2014، حين وضع توصيفًا صريحًا للرئيس المرتقب قائلاً بأنّه يجب أن يكون قويًّا وعادلاً يمثّل بيئته. وذهبت بعض المصادر السياسيّة بالتساؤل: هل المطلوب رئيس أزمة أو رئيس حلول جذريّة؟ وتذكّر تلك المصادر بأنّ الرئيس السابق ما كان رئيسا تتمثّل فيه صفة الحلّ بل كان فريقًا في أزمة هي بحدّ ذاتها جزء من أزمة كبرى تدور من سوريا إلى اليمن. إن فكرة الرئيس التوافقيّ في ظلّ التهجير الممنهج والمتعمّد لمسيحيي المشرق، كما في ظلّ استباحة حقوق المسيحيين في لبنان، وهذا عينًا ما اشارت إليه مذكّرة بكركي، فكرة ساقطة في الواقع والمطلق في المضمون والأسلوب. ولذلك بات لزامًا على البطريرك الراعي وبحسب تلك المصادر أن يعيد الاعتبار إلى التوصيف بدقّته الحازمة والجازمة، إذا رمنا إلى عملية انتخابيّة سليمة. لقد أنتجت زيارة البطريرك للجبل فرحًا وسلامًا وتلازمًا اجتماعيًّا بين المسيحيين والدروز لا على قاعدة أقلويّة بل على قاعدة أن الجميع مواطنون فاعلون لهم الحقوق عينها في الدولة وهي باتت غائبة، ولكنّها لم تتنتج رؤية جوهريّة تبيح للبنانيين بأن يتمازجوا في العمق وليس في الشكل. ليس الانتخاب حلاًّ، بل عقد اجتماعيّ متجدّد، وقد ذكّر به قبل البطريرك الراعي الدكتور كمال الصليبي في كتابه تاريخ لبنان حين ذكر بان لبنان منطلق من عقد اجتماعيّ ونستطرد سياسيّ، في نظام مركّب. والعقد الاجتماعيّ هذا، وفي ظلّ تراكم الأزمات في لبنان ووجوده في عين العاصفة يقود ليس إلى مؤتمر تأسيسيّ بالضرورة، بل إلى مؤتمر إصلاحيّ للنظام السياسيّ بحلّته الطائفيّة، يحرره من الفوضى الطائفيّة، بل من الطائفيّة المتلاشية نحو الطائفية المتوازنة بل نحو ما ذكّر به أرسلان "العدل الاقتصاديّ والحقوقيّ... وبالتالي السياسيّ". وتطرح المصادر نفسها سؤالاً بسؤالين: "ما الذي يمنع انتخاب رئيس من الشعب مباشرة، ولماذا لم يتمّ اعتماد قانون للانتخابات جوهره النسبيّة والمناصفة؟"

وفي النهاية، مع وجود خطورة لجهة ما يحاك ضدّ المسيحيين بإرساء مبدأ توطين اللاجئين سوريين كانوا أو فلسطينيين. لبنان قادم على واقع خطير أبعد من الرئاسة. وهي تفصيل ضمن مجموعة عناوين كبرى. لبنان أمام أزمة كيان ووجود، والخطورة الواضحة على مسيحييه، ليس الانتخاب المصدر الوحيد لها، بل التوطين وسلب الحقوق والتعاطي مع المسيحيين على اساس أنهم أجراء لا أمراء في وطنهم. المسار الوحيد والفاعل الملقى على عاتق البطريركيّة المارونيّة بما تمثّل من ثقل كبير أن تعيد الاعتبار في قراءتها للأزمة الكيانيّة، وتتذكّر بأنّ الإصلاح ينطلق من قانون عادل للانتخابات ومن ثمّ انتخاب رئيس يملك القدرة على مواجهة ما يحاك وإبطاله. الإصلاح ينطلق عموديًّا، من القاعدة إلى الرأس مع الأخذ بعين الاعتبار على الرغم من التوق للبننة صافية بأنّ الخروج نحو حلول نهائيّة في لبنان لن تكون ناجمة قبل معرفة ما سيؤول إليه الوضع في سوريا مع دخول روسيا على الخطّ، وهذا ما سيعيد ديناميات جديدة للبنان والمنطقة في رسم تسوية حتمًا ستتضح معالمها خلف النيران السوريّة. وعلى الرغم من الواقعيّة تلك فإن وحدة اللبنانيين هي المبتغى، بدءًا من الجبل وصولاً إلى كلّ لبنان.