لا عفوية ولا بريئة بدت زيارة رئيس الحكومة البريطاني ​ديفيد كاميرون​ "المفاجئة" إلى بيروت، والتي سبقت زيارة أخرى "مُعلَنة" للرئيس الفرنسي ​فرنسوا هولاند​ في القادم من الأيام، بل حملت بين طيّاتها "استعراضاً" و"استغلالاً" بأتمّ معنى الكلمة.

لم يحمل كاميرون معه أيّ "بشرى" للبنانيين، لا في ما يتعلق بالانتخابات الرئاسية "المجمّدة" ولا حتى في ما يتعلق بالسبب المفترض لزيارته، ​اللاجئون السوريون​، وعلى الأرجح لن تكون "جعبة" هولاند مختلفة، بل إنّ هذه الزيارات تكاد على العكس من ذلك تثير الريبة و"النقزة" في لبنان.

بروباغندا واستعراض

من دون سابق إنذار، استفاق اللبنانيون صباح الإثنين على خبر وصول رئيس الحكومة البريطانية ديفيد كاميرون إلى بيروت على متن طائرته الخاصة. لم يكن أحد في جوّ الزيارة مسبقًا، لا من الإعلاميّين ولا حتى من السياسيّين الذين لم يلتقِ منهم الضيف البريطاني "الدسم" سوى رئيس الحكومة ​تمام سلام​ ووزير التربية ​الياس بو صعب​ لضروراتٍ لوجستيّة. وللوهلة الأولى، حتى مستشارو رئيس الحكومة لم يكونوا على علمٍ بقدوم كاميرون إلى لبنان، ولم تكن لديهم الإجابة الحاسمة عندما سُئلوا عن موعد اللقاء المفترض بين الرجلين.

على الأرجح، كلّ هذه الأمور كانت "تفاصيل" على هامش الزيارة التي كانت عناوينها بلا شكّ "أوروبية" ولا شأن للبنان بها من الناحية السياسية. هذا ما تؤكّده مصادر سياسية متابعة، حيث تربط زيارتي كاميرون وهولاند بالملف الرقم واحد الذي يؤرق الأوروبيين هذه الأيام، ألا وهو ملف اللجوء السوري، والذي بات يتصدّر كلّ الاهتمامات في القارة العجوز التي وجدت نفسها عالقة بين مطرقة التعاطف الإنساني مع اللاجئين، خصوصًا بعد موجة الغضب التي أحدثتها بعض الصور التي تمّ تداولها، وعلى رأسها صورة الطفل ​إيلان كردي​ التي أدمت القلوب ودقّت ناقوس الخطر، وبين سندان التداعيات المحتملة لهذا الملف في داخل الدول الأوروبية، خصوصًا في ظلّ الحديث عن إمكانية أن يكون لبنان ممراً للاجئين الذين فاقت أعدادهم قدرة الدولة اللبنانية على الاستيعاب بأضعافٍ مضاعَفة.

من هنا، فإنّ المصادر لا تتردّد في وضع زيارة كاميرون في إطار "البروباغندا" و"الاستعراض"، خصوصًا أنّ لقاءه رئيس الحكومة لم يكن إلا لـ"رفع العتب"، في حين أنّ الأساس من الزيارة يكمن في "الصور التذكارية" التي أخذها إلى جانب اللاجئين السوريين الذين زارهم في المدارس والمخيّمات، وهي صورٌ ستعود عليه بالنفع في ظلّ المشهد الضبابيّ المنقسم بطبيعة الحال. ولكنّ المصادر تتحدّث في الوقت عينه عن بُعدٍ آخر للزيارة لا يمكن نكرانه، خصوصًا لجهة هبوطه في المطار العسكري في رياق وانتقاله الى مخيم تربل القريب، وهو موقعٌ قد يكون مثاليًا لمهمّة "الاستطلاع" التي باشرتها دولٌ أوروبية تمهيدًا لتكثيف حربها على الجماعات المتطرّفة في سوريا، بعدما كانت محصورة في وقتٍ سابقٍ في العراق، لعلّها بذلك تستطيع وضع حدّ لموجات الهجرة غير المسبوقة.

مخططات غير مطمئنة!

بعكس الطنّة والرنّة التي ترافق عادة زيارات المسؤولين الأجانب إلى لبنان، مرّت زيارة رئيس الحكومة البريطاني "على السكت". لم يعرف أحد بالضبط متى حطّ الرجل في العاصمة اللبنانية ولا متى غادر، ولا حتى ما الذي فعله بالتحديد في لبنان. لم تُرصَد بوضوح الرسائل التي حملها من خلال زيارته، ولا الأهداف التي سعى لتحقيقها لاستغلالها ربما في ما بعد داخل بلده، لتقتصر "إنجازات" الزيارة "الرسمية" على إعلانه من العاصمة اللبنانية عن تعيين وزيرٍ مختص بشؤون اللاجئين السوريين هو ريتشارد هارينغتون.

لهذه الأسباب ولغيرها، أثارت هذه الزيارة "الريبة" و"النقزة" في لبنان، تقول المصادر. هي تذكّر أولاً بأنّ أزمة اللجوء لم تبدأ اليوم، بل إنّ لبنان بالتحديد يعاني منها منذ أربع سنواتٍ ونيّف، وقد رفع الصوت مراراً وتكرارًا سواء على الصعيد المحلي أو العربي والإقليمي أو حتى في المحافل الدوليّة، من دون أن يلقى التجاوب المطلوب ممّن استفاق لديهم فجأة اليوم شعور النخوة والكرامة والاهتمام بحقوق الإنسان. أكثر من ذلك، تلفت إلى أنّ بعض هؤلاء كانوا يتّهمون من يتجرّأ على التحذير من أنّ اللاجئين السوريين يشكّلون "قنبلة موقوتة" قد تنفجر في أيّ لحظة بـ"العنصريّة"، بل كانوا يشيرون إليهم بالإصبع بوصفهم "منعدمي الأخلاق" و"متجرّدين من الإنسانيّة"، من دون أن يدرك أحد هؤلاء أنّ الموضوع أكبر من كلّ هذه الشعارات "التافهة" و"السخيفة"، وأنّه يستحقّ منهم القليل من الجدية.

اليوم، وبعد أن شعرت الدول الأوروبية بالخطر يقترب منها، وغيّرت من معادلاتها وأدبيّاتها، لتصبح عبارة "الحلّ السياسي" مقبولة بنظرها، يخشى اللبنانيون ممّا يُحاك في الكواليس ربما على حسابهم، ولا يتأمّلون خيرًا من الاستنفار الأوروبي غير المسبوق إزاء قضية اللاجئين. وهنا، تلفت المصادر إلى مخطط توطين اللاجئين السوريين الذي نبّه منه رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون، داعية إلى أخذه على محمل الجدّ، وعدم تكرار "خطيئة" الاستخفاف به، تمامًا كما تمّ الاستخفاف بتحذير "الجنرال" سابقاً من تداعيات استقبال اللاجئين الكارثية على الوطن، ومحاولات "تسييسه" من قبل الكثيرين، قبل أن يتبنّى الجميع خطابه في وقتٍ لاحق، معربة عن خشيتها من أن يتكرّر السيناريو هذه المرّة أيضًا، ولكن عندها قد لا ينفع الندم بأيّ شكلٍ من الأشكال.

أين العرب؟

"لقد بدأت اوروبا اليوم بدقّ ناقوس الخطر مع مجيء مليون نازح إليها، أمّا لبنان، فوحده يتحمّل عبء مليوني نازح في مقابل 4 مليون لبناني، أيّ بزيادة 50 % من نسبة السكّان"، قال العماد عون بعيد الاجتماع الأخير لتكتل "التغيير والإصلاح"، متسائلاً لماذا لم يشعر "عرّابو" الحرب في سوريا الأوروبيون "بإنسانيتهم" مع اللاجئ إلاّ في لبنان؟!

وأبعد من ذلك، أين الدول العربيّة من كلّ ما يجري، وبالتحديد الخليجية منها التي ترفع شعار "دعم الشعب السوري" ليلاً نهاراً؟ لماذا لم تستقبل نازحاً سورياً واحداً على أراضيها؟ لماذا على لبنان وحده أن يتحمّل؟ وهل يتحمّل فعلاً "الآتي الأعظم" الذي ينتظره؟

كلّها أسئلة لا يبدو أنّ ثمة إجاباتٍ متوافرة لها حتى الآن..