لا يفضل الكثيرون الحديث عن تركيبة خاصة بالمجتمع اللبناني، لا تحتمل الإسقاطات الخارجة عنه بأي شكل من الأشكال، ولا يريدون الإعتراف بأنها قادرة على "هضم" أو "تطويع" أي تحرك وفقاً لمنظومة عملها المعقدة، لكن التجارب التاريخية والواقعية السياسية تتطلب التعمق في الأسباب، من دون النظر إلى المشكلة الأساسية عن بعد، لأن هذا الأمر لن يوصل إلى أي نتيجة.

العمل السياسي أو الإجتماعي في "بلاد الأرز"، يتطلب أن يحمل صاحب أي مشروع "شهادة قيادة"، تخوله التنقل بين المحاذير المختلفة، التي تقف بوجهه منذ البداية، من التركيبة الحزبية إلى دور السلطات الدينية، وصولاً إلى النظام الإجتماعي الذي يضع الفرد ضمن بوتقة لا يستطيع الخروج منها بسهولة إلا إلى "المجهول" أو "الإبعاد القسري".

من هذا المنطلق، تشير مصادر سياسية مطلعة، عبر "النشرة"، إلى ضرورة مواكبة كل التحركات الشعبية التي عرفتها الساحة اللبنانية، لا سيما تلك التي إنطلقت بعد العام 2005، أي لحظة إغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، وتعتبر أنها كانت تأكيداً جديداً، في مسارها، على الرؤية الخاصة لمجتمع تتنازعه مجموعة من الإنتماءات، التي لم تنجح في أي لحظة تاريخية على بناء هوية جامعة لها، وترى أن المشكلة الأساس تكمن في هذه النقطة بالتحديد، كونها تمثل الإنطلاقة في بناء رأي عام جامع، قادر على خوض غمار المراحل الإنتقالية من دون الوقوع في "المجهول"، الذي ليس إلا حرباً أهلية تحت أي عنوان.

وبعيداً عن البحث بشكل مفصل في كل تحرك حصل في السنوات الماضية، تلفت هذه المصادر إلى أن الصورة التي تجتاح الشارع المحلي، في هذه الأيام، كانت موجودة في أكثر من مرحلة، من تظاهرات إسقاط النظام الطائفي إلى الحركات الإعتراضية على مشاريع قوانين الإنتخابات المتعددة، مروراً بالمطالب الإجتماعية المختلفة، الزواج المدني، سلسلة الرتب والرواتب، ضمان الشيخوخة، أسعار المحروقات، حق المرأة في منح الجنسية لأولادها، وغيرها من الملفات المعلنة، لكنها جميعها إصطدمت في نهاية المطاف بالحاجز الكبير الذي من الصعب تجاوزه، أي التركيبة الإجتماعية اللبنانية الخاصة.

بالنسبة إلى هذه المصادر، هناك مسلّمات ينبغي معرفتها والتعامل معها بشكل واقعي، من قبل أي جهة تغييرية، سواء كان المتابع لها مؤيداً أو معارضاً، وهي أن الصورة الهشة للدولة اللبنانية، تخفي خلفها بنية صلبة بنت نفسها على مدى عقود طويلة، وفق نظام حول المواطنين إلى مجموعات من الرعايا، تخضع كل مجموعة منها في أي تفصيل من حياة الأعضاء المؤلفين لها إلى "راع"، توافقوا على ربط مصيرهم به من الولادة حتى الوفاة، وتوضح أن لهذه المجموعات مؤسساتها التعليمية والصحية والإعلامية وعلاقاتها الخارجية الخاصة، التي تضمن لها البقاء والسيطرة، وبالتالي هي باللاوعي الجماعي تعتبر أي إستهداف لهذا "الراعي" إستهدافاً لوجوده.

في هذا السياق، تفضل المصادر السياسية المطلعة تشريح الصدامات المتعددة التي وقع بها الحراك الموجود حالياً، مع الإشارة إلى أن الحالة الإعتراضية لدى المواطنين موجودة بشكل دائم، إلا أنهم في صناديق الإقتراع يجددون "البيعة"، بسبب مخاوف كل مجموعة من المجموعات الموجودة في التركيبة، التي لا يصلح القول أنها مجتمع واحد، نظراً إلى غياب التجارب الجامعة الناجحة في الذاكرة التاريخية الموحدة، وتشير إلى أن هذا الحراك عندما صوب في البداية على أداء بعض الوزراء ورئيس الحكومة تمام سلام، المحسوبين على تيار "المستقبل"، بدأ التحضير لتحركات مضادة تدافع عن مواقع الطائفة السنّية، وعندما عمد إلى رفع شعارات تطال رئيس المجلس النيابي نبيه بري وقعت المواجهة مع جمهور "حركة أمل"، وقبل ذلك مع جمهور "حزب الله" عند رفع بعض المشاركين صوراً لأمين عام الحزب السيد حسن نصرالله، والأمر نفسه حصل مع جمهور "التيار الوطني الحر"، الذي يرفض وضعه في مصاف الطبقة السياسية الفاسدة.

وفي حين تشير إلى أن الصدامات ستحصل عند رفع أي شعار أو تسمية أي "راع" لمجموعة حزبية أو طائفية، تلفت المصادر نفسها إلى أن الحراك الشعبي دخل مرحلة "الرضوخ" من خلال الدخول في التعمية الخارجة عن التسمية، التي تؤشر إلى تراجعه أمام التركيبة الإجتماعية الضاغطة، وتعرب عن مخاوفها من أن تكون هذه الخطوة في مسار "هضمه" أو "تطويعه"، وتعتبر أن المشكلة هي عدم قدرته على بلورة مشروع قادر على تجاوز الهواجس المختلفة، خصوصاً بعد أن رفع شعارات تدمير الهيكل دفعة واحدة، في مؤشر لعدم تعلّمه من دروس كل الحراكات السابقة، ما يدل على أنه لا يملك "شهادة القيادة" المطلوبة.

وسط هذه المعطيات، ترى هذه المصادر أن المطلوب بشكل أساس الإدراك بأن الجماعات اللبنانية لا تتقبل الحركات التغييرية الغامضة، التي ستسقط في نهاية المطاف، وتشير إلى أن هذا الواقع يتطلب التعامل بحذر وهدوء، يقوم على بناء وعي إجتماعي مدعّم بتطيمنات إلى المستقبل القريب والبعيد، عبر مراكمة إنجازات أو نجاحات مشتركة، وبالتالي من المفترض أن تعمل أي حركة تغييرية على خطة طويلة الأمد، تبدأ، على سبيل المثال، من خوض معركة إقرار قانون إنتخابي يؤمن التمثيل الصحيح، أو تشكيل قوة ضغط تمنع إدارة البلاد على قاعدة الصفقات المتبادلة بين "رعاة" المجموعات الحزبية والطائفية.

في المحصلة، توضح هذه المصادر أن طرح مشروع التغيير الشامل يكون ضمن دولة، تقوم على المواطنة والعدالة، لكن في الحالة اللبنانية المطلوب بناء هذه الدولة، الأمر الذي لا يكون إلا في سياق سيرورة تاريخية تأخذ بعين الإعتبار كل المخاوف والهواجس، وتعتمد على إنتزاع النجاحات بشكل تدريجي، لا سيما أن الإنقسام القائم على مر التاريخ لم يتخط هوية البلد.