كشف الروس بدخولهم أرض الشام المشيئة الأميركيّة الملتبسة والمغلّفة بضباب سميك، باستهلاك المنظمات التكفيريّة كورقة ضغط لا حدود لانضباطها، ولا قيود لامتدادها، من أرض الشام و​العراق​، باتجاه ​أوروبا​ و​روسيا​. الخلاف الأميركيّ-الروسيّ، الذي ركّزنا فيه مليًّا في "النشرة"، توضّح أكثر وبصورة مباشرة بخطابيّ الرئيسين الأميركيّ ​باراك أوباما​ والرّوسيّ فلاديمير بوتين، وقد انطلق قبلاً عبر المؤتمر الصحافيّ بين وزيريّ خارجيّة البلدين جون كيري و​سيرغي لافروف​ في الكلام حول طول الحرب على الإرهاب في مساحة زمنيّة غير محدودة، فيما الروس مصرّون على القضاء عليه من جذوره. الإرادة بطول الحرب وكما قرأتها مصادر دبلوماسيّة معنية تُظهِر ميوعة الأميركيين وعدم الجديّة في القضاء على الإرهاب، بالإضافة إلى استثمار الموارد الماليّة والبشريّة تحت عنوان ظاهره مضيء ولكنّه يحوي على ظلام دامس.

لم يرق للأميركيين ذلك الحراك الروسيّ المولّف في الشرق الأوسط بين المتناقضات في سياقاتها العقائديّة والعربيّة. الأميركيون في رؤيتهم العالم العربيّ لا يزالون كسينجريّين(1)، والكسينجريّة حالة قائمة بذاتها لا تزال ممدودة في إطارها البنيويّ للشرق الأوسط وفقًا لمخطط التقسيم الشهير، تستثمر الجزئيّات بتفاصيلها الدقيقة ومعاييرها اللحظويّة لهذا الهدف، فمن الطبيعي أن تكون المنظمات التكفيريّة جزءًا كبيرًا يقود إلى عمليّة الترميد كما حصل في سوريا والعراق وليبيا وتونس. الروس في أدبياتهم الواضحة متحسّسون لهذا المخطّط لأنّه واسع الآفاق، يتمركز في الشرق الأوسط، مؤمّنًا إطلالة سريعة، وانتشارًا كبيرًا في المحيطات المتصلة بالشرق الأوسط سواء في أوروبا أو روسيا بالذات. ولذلك هم متباينون بجوهرهم المتين مع تلك النظرة الأميركيّة الاستثماريّة السّائدة، ويرنون بحراكهم عبر تأسيس جبهة مواجهة للإرهاب، إلى ما هو أشمل وأكمل واعمق، أي إلى سياق تأسيسيّ مبنيّ على آفاق الشراكة المتوازنة بين مكوّنات المشرق العربيّ، فتكون المقدّمة الفعليّة لتسوية ​الصراع العربي الاسرائيلي​ على القاعدة عينها. وبالتالي، سيكون للقوات الروسيّة دور كبير في الانتشار على الحدود السوريّة-الإسرائيليّة بعد إيجاد تسوية بخصوص ​الجولان​ المحتلّ، والتي بإمكانها أن تمتدّ من الحدود المذكورة لتكتب فصلاً جديدًا ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين، سيّما أنّ التهديد المتواصل بهدم ​المسجد الأقصى​ يشكّل في الوجدان الفلسطينيّ أو الإسلاميّ-العربيّ بل في الوجدان المسيحيّ-المشرقيّ، خطورة هائلة تنذر بحرب كبرى، وهو مشتهى حتى القوى التكفيريّة التي لم تقل كلمة واحدة في هذا الخصوص، مما يدل على التماهي، وأكثر على الضغط باتجاه الحراك الروسيّ في قلب سوريا.

الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله التقط خطورة تلك اللحظة. لكن يجدر الإشارة بأن الرئيس المصري ​عبد الفتاح السيسي​ في كلمته في ​الأمم المتحدة​ التقط اللحظة عينها حين اشار إلى خطر التقسيم الذي واجه سوريا، ودعا إلى حلّ يحافظ على كيان الدولة واستقرارها، وربط ذلك بالتهديدات المتواصلة على المسجد الأقصى. اللحظة عينها مسكونة في وجدان الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين في منطق الحرب على الإرهاب حين قال: "روسيا كانت دائما تواجه الإرهاب، ونحن اليوم نقدم مساعدة عسكرية وتقنية للعراق وسوريا وغيرهما من الدول في المنطقة التي تواجهه. ويجب الاعتراف بأن ليس هناك أي قوة فعّالة أخرى تواجه داعش والتنظيمات الإرهابية سوى ​الجيش السوري​ و​وحدات الحماية الكردية​، وعلينا أن ننطلق من هذه الحقيقة. نحن لا نستطيع أن نتحمل أكثر من ذلك"، وكان قد وجّه بدوره انتقادًا لاذعًا للإدارة الأميركيّة حيت اتهمها بتمويل المعارضة السورية وتسليحها وتدريبها، بوجه الجيش فيما هم داعمون للقوى التكفيريّة.

تلاقى الرئيس الأميركيّ قليلاً مع بوتين في كلامه على التعاون مع الروس والإيرانيين لإيجاد مخرج تسوويّ في سوريا، ولكن من غير توضيح معايير هذا المخرج وعناوينه مكتفيًا بالقول بأنّ الحل لن يكون بوجود الرئيس السوري ​بشار الأسد​، في حين أن بوتين مصرّ على أنّ الأخير جزء من الحلّ السياسيّ التأسيسيّ لسوريا جديدة. وقد تلاقى بدوره الرئيس الإيراني ​حسن روحاني​ مع قراءة بوتين لسوريا على عكس ما تمّ تسريبه.

تبقى في تلك العجالة الإشارة إلى الواقع اللبنانيّ المرتبط ارتباطًا وثيقًا بآفاق التغييرات الجذريّة. لقد بلغ الصراع السياسيّ ذروته في العناوين المتراكمة على الأرض اللبنانيّة. ليس الصراع في حقيقته إيرانيًّا-سعوديًّا بحتًا، بل هو بدوره صراع إيراني-روسيّ من جهة وسعوديّ من جهة أخرى. الأساس فيه، أن يعترف معظم السياسيين اللبنانيين بأنّ ​اتفاق الطائف​ قد سقط بسقوط الرعاية السوريّة-السعوديّة المشتركة. فهذا الاتّفاق كان رُسّخ بمنطق الغالب والمغلوب على مقياس الراحلين الرئيس السوريّ ​حافظ الأسد​ ورئيس الحكومة ​رفيق الحريري​. وبذا أمسى ملعبًا لكليهما على حساب المكوّن المسيحيّ. في الظرف الراهن تبدّلت المعادلة، وفي الأساس كانت قد تبدلّت منذ 14 شباط سنة 2005، في لحظة اغتيال الحريري، تلك كانت اللحظة الذروة في إنهاء دور الطائف بعد الانقلاب عليه بجعله متشخصنًا على مقاييس أشخاص. لكنّ الحالة اللحظويّة الآنية، سيشترك الروس والإيرانيون بصياغتها مع ضيق أفق الدور السعوديّ في المدى اللبنانيّ انطلاقًا من ضيق أفق دوره في سوريا والعراق، ومعركة مأرب في اليمن ستحدّد بدورها معنى هذا الدور.

لقد أثبتت روسيا دورها كحالة دوليّة مؤثّرة وفاعلة من البوابة السوريّة أكثر من أي بوابة اخرى. وأمست إيران بعد توقيع ​الاتفاق النووي​ الدولة الإقليمية الكبرى المتماهية بالرؤية مع توسّع الدور الروسيّ، فماذا سيكون حجم القوى الأخرى في محتوى الإملاء والتأثير في الداخل اللبنانيّ؟ لذلك جاءت النصيحة بضرورة الاتفاق السياسيّ الرضائيّ أفضل من اجتياح التسوية الناتجة من هذا التماهي الروسيّ-الإيرانيّ لبنان فيدخلها الفريق الآخر وهو صاغر. إنّ الورقة الموصوفة بالاقتراح التسوويّ قد قضت على آمال الحوار، مع رفض العماد ميشال عون لها. من دسّ ببند ترقية ثلاث عمداء موارنة إلى رتبة لواء ومن بينهم قائد فوج المغاوير ​شامل روكز​ مقابل تعيين ​عماد عثمان​ مديرًا عامًّا لقوى الأمن الداخليّ، إنما قصد فتح جبهة سياسيّة متأججة، فيما كان النائب ​سعد الحريري​ قد اقترح مع عون تسوية تسمي روكز قائدًا للجيش مقابل عثمان مديرًا عامًّا لقوى الأمن الداخليّ. لقد تجوّف الحوار بفعل تلك المكابرة وبطل وجوده، والبديل إمّا العودة إلى صيغة روكز-عثمان في الموقعين المتقدمين، أو انتظار اللحظة المناسبة من سوريا إلى الداخل اللبنانيّ لفرض الرؤية الجديدة. وهي واضحة مع مؤتمر تأسيسيّ جديد يتأسس من تلك اللحظة، ويطلّ لبنان خلاله من الجمهوريّة الثانية إلى الجمهوريّة الثالثة حيث المناصفة بقانون انتخابيّ نسبي ورئيس جمهوريّة قويّ العنوانان الرئيسيّان لسطوعها.

(1)نسبة إلى وزير الخارجيّة الأميركيّ الأسبق هنري كسينجر، وهو صاحب نظريّة تقسيم الشرق الأوسط، المذهبيّ-الجغرافيّ، واستندت نظريّته إلى رؤية إسرائيليّة تعود إلى خمسينيّات القرن المنصرم.