من الطبيعي أن تقف الطبقة السياسيّة اللبنانيّة بكامل ألوانها وتوجّهاتها ضُدّ ما اصطُلِحَ على تسميته "​الحراك المدني​" في السرّ، وأن تدعمه في العلن، وذلك في محاولة للنأي بالنفس عن الطبقة الفاسدة التي يستهدفها "الحراك". وفي الأيّام القليلة الماضية، لوحظ أنّ الكثير من السياسيّين أصبحوا أكثر جرأة في إنتقاد الحراك علناً، بالتزامن مع محاربتهم إيّاه خلف الكواليس. لكن ما هو السبب الذي يدفع بعض الجهات السياسيّة إلى إبقاء هذا "الحراك المدني" ناشطاً إلى حدّ ما، على الرغم من تمنيّاتهم بتوقّف تظاهراته ضدّهم، اليوم قبل الغد؟

بداية لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ "الحراك المدني" الذي إنطلق بشكل فاعل إعتباراً من 22 آب الماضي، إحتجاجاً على تراكم النفايات في لبنان، قد إنحرف كلّياً عن الأهداف التي رُسمت لأول التحرّكات، في ظلّ فشل ذريع في تحقيق أيّ من الأهداف المرفوعة. والسبب أنّ المُشرفين على التظاهرات الشعبيّة إنغمسوا من حيث يدرون أو لا يدرون، في زواريب الخلافات الداخليّة اللبنانية، وسمحوا لجهات حزبيّة وسياسيّة فاعلة بإستغلال تحرّكاتهم وبتسييس أهدافها. ولُوحظ أيضاً قيام ​الحزب الشيوعي​ اللبناني الذي كان فقد أيّ دور يُذكر على الساحة السياسيّة اللبنانيّة، بوضع اليد على "الحراك"، في محاولة للعودة إلى الضوء من باب المطالب الإجتماعيّة، مُستفيداً من دعم عدد من الإعلاميّين الشيوعيّين الذين يشغلون مناصب حسّاسة في إستديوهات أخبار بعض محطات التلفزة اللبنانيّة. كما جرى إستغلال التظاهرات الشعبيّة من قبل جهات نقابيّة وهيئات مدنيّة ترفع مطالب مُحدّدة، مثل إقرار ​سلسلة الرتب والرواتب​، ومثل وقف تطبيق ​قانون الإيجارات​ الجديد، إلخ... وفي ظلّ هذه المعمعة، سقط الهدف الأساسيّ للحراك والذي كان يتمثّل برفع النفايات المُتراكمة، بحجّة حماية ​البيئة اللبنانية​، فصارت كل وديان لبنان، وما تبقّى من غابات فيه، مكبّات عشوائيّة، من دون أيّ حسيب أو رقيب. وبدل أن يضغط "الحراك" لرفع النفايات من الشوارع من قبل مُطلق أيّ شركة، وأن يضغط لطمرها في مكان واحد بشكل مُنظّم، قبل الشروع بالمُطالبة بإيجاد المطامر الصحّية، وبإيجاد شركة بديلة لرفع النفايات، وبتوعية المواطنين على أهمّية فرز النفايات تسهيلاً لإعادة تدويرها، إتخذ موقفاً مُعارضاً بالمُطلق من أيّ إجراء ظرفي لوقف الكارثة بحجّة مُحاربة الفساد المُستشري، فغرق لبنان وشوارعه أكثر فأكثر في النفايات، في ظلّ شعارات رنّانة لا تحمي بيئة، ولا تحدّ من تلوّث!

وتعزّز فشل "الحراك المدني" أكثر فأكثر، عبر رفع شعار "كلّن يعني كلّن" ثمّ التراجع عنه، تحت الضغط الميداني من مجموعات من زعران ​الحرب اللبنانية​ هنا، وتحت وطأة ضياع بُوصلة الأهداف والتأثّر بجهات سياسيّة مُحدّدة هناك. وتمّ دفع "الحراك" من جهات سياسيّة تتحرّك "من تحت الطاولة"، كما يُقال باللغّة العامية، للمُطالبة بإنتخابات نيابية هنا، وبانتخابات رئاسية هناك، وبإلغاء الطائفيّة السياسيّة هنالك. وصار مطلب "إسقاط النظام" يتكرّر دَوريّاً على ألسنة "الناشطين" في "الحراك المدني". وبطبيعة الحال، ولأنّ حجم المُشاركين في أكبر تظاهرات "الحراك" لا يتجاوز الحشد الذي يحضر مُطلق أيّ مهرجان حزبي في لبنان، فإنّ الشعارات العالية والبرّاقة سقطت كلّها، خاصة وأنّ رفعها غير قابل للتطبيق في بلد مثل لبنان، حيث الإنقسام العامودي على المستويات السياسيّة والطائفيّة والمذهبيّة وغيرها. وأصلاً إنّ شعار "إسقاط النظام" غير واقعي، لأنّه لا يُوجد في لبنان نظام أحادي ومُعارضات تُطالب بإسقاطه، إنّما سلطة سياسيّة مُركّبة تتكوّن من مجموعات سياسيّة إئتلافيّة.

وفي ظلّ الفشل الذريع للحراك المدني، تراجعت مطالب "الناشطين"، من المطلب النظري بإسقاط النظام إلى المطلب العملي بإلإفراج عن "رفاقهم" الموقوفين عن حقّ لدى السلطات الأمنيّة والقضائيّة المعنيّة، وذلك بسبب تورّطهم بأعمال شغب على مرأى ومسمع ملايين المُشاهدين المُتسمّرين أمام شاشات التلفزة، خاصة وأنّ أعمال شغب هؤلاء وشتائمهم وغوغائيّتهم إنصبّت كلّها على عناصر أمنيّة رسميّة مأمورة، تعيش تحت مستوى "خط الفقر"، ولا علاقة لها لا بطبقة فاسدة ولا بمن يحزنون!

في الختام، وعلى الرغم من الفشل الذريع للحراك المدني للأسباب المذكورة أعلاه كلّها، فإنّ جهات سياسيّة مُختلفة تعمل على مدّه ببعض الأموال وببعض "الناشطين" بشكل محدود، بغية إبقاء تحرّكاته على قيد الحياة ولو بشكل ضعيف ومن دون تأثير يُذكر على الحياة السياسيّة العامة، وذلك بهدف أن يتمّ إستغلال الغضب الشعبي المُحقّ على السلطة السياسيّة المُهترئة والفاشلة، لتحقيق غايات سياسيّة مُعيّنة عندما تدعو الحاجة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، عندما تدقّ الساعة، سنسمع جميعاً بتظاهرات ضخمة وبأعمال شغب واسعة، لإسقاط الحكومة. وإذا كانت دعوة التظاهرة المذكورة ستنطلق من ناشطي "الحراك المدني" الحاليّين أنفسهم، فإنّ المُشاركة الميدانية في التظاهرات الضخمة المُحتملة مُستقبلاً في حال فشل التسويات السياسيّة، لن تقتصر على بعض اليساريّين المدعومين بعدد من العاطلين عن العمل وبعدد من الزعران وببعض روّاد الحانات ليلاً والباحثين عن الضوء والشهرة نهاراً، بل سيشمل أنصار أحزاب سياسيّة فاعلة في لبنان قادرة على قلب الطاولة في لبنان!