عام يمضي وعام يأتي، وأعمارنا تنقضي ونحن لا ندري، نعيش زمانا تمر فيه الأيام والليالي لانكاد نحصيها، ولا ندرك أعمالنا فيها صالحة كانت أم طالحة، إلا ما رحم ربي.

لقد هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة الأرض الحبيبة، التي فيها ولد وفيها ترعرع ونشأ، بعد أن لاقى فيها صنوفا من العذابات والأذى والمحن من بني جلدته وأقرب أقربائه.

فقط لأنه أراد أن يخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن عبادة الأصنام والعباد الى عبادة الله رب العباد، لأنه أراد أن يكرس مبدأ العدل والمساواة، فلا فرق بين عربي وأعجمي، ولا بين غني و فقير، ولا بين أبيض وأسود، الا بالتقوى وحسن الخلق وصالح العمل.

فهذا هو ​الإسلام​ وهذا هو منهجه، الذي أضاعه اليوم من أرادوا أن يعيشوا زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا هديه وخلقه ومنهجه، فشوهوا الاسلام وغيروا وبدلوا، وهم يزعمون أنهم على الحق، وعن الحق يدافعون، ومن أجله يقاتلون، وتالله لو فهموا هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم فقط ما هكذا ينحدرون.

يوم هاجر صلوات ربي وسلامه عليه وقف على مشارف مكة مخاطبا إياها: "والله إنك لأحب البقاع إلى قلبي ولولا أنهم أخرجوني منك ما خرجت"، يعلّمنا بذلك حب الأرض والوطن.

ويوم أوذي في الطائف في رحلته الأخيرة قبل الهجرة، ولاقى من أهلها ما لاقى، لم يشأ أن يدعو عليهم بالهلاك بل قال: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون"، وقال: "إنّي أرجو أن يخرج من ظهورهم من يقول لا إله إلا الله"، يعلّمنا بذلك الرحمة التي أرسل بها لكل العالمين، وليس فقط للمسلمين، حتى شملت رحمته صلى الله عليه وسلم الحيوانات والجمادات، مصدقا لقول ربه سبحانه فيه: " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ".

لم يحمل في قلبه يومًا ذرة حقد على أحد، ولم ينتقم يومًا لنفسه من أحد، بأبي هو وأمي كان ينشد العدل ولو في غير ملته، فكذلك عندما اشتد الأذى على أصحابه قبيل الهجرة أمرهم بالهجرة إلى الحبشة التي يحكمها النجاشي ذلك الملك الذي كان على دين عيسى المسيح عليه السلام، وقال عنه صلى الله عليه وسلم: "فإن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد"، يعلّمنا بذلك التعايش مع الآخرين بالمحبة والسماحة والسلام بغض النظر عن دينهم وعرقهم.

وعندما عزم على الهجرة أراد أن يرد الأمانات الى أهلها حتى ولو كانوا أعداءه بل وتآمروا على قتله كيف لا وهو رغم محاربتهم له كانوا يلقبونه بالصادق الأمين، ويُعرِّض بذلك حياة ابن عمه علي بن ابي طالب كرم الله وجهه للخطر، ليعلّمنا بذلك أن أعظم سمات المؤمن وأهمها الصدق والأمانة.

وفي طريق الهجرة يأخذ بالأسباب، ويتوكل على الله مسبب الأسباب، ليعلمنا بذلك أن الأمر في أوله وآخره بيده الله سبحانه، لا بيد أحد سواه، وما قدَّره يكون.

ويوم وصل يثرب أضاء فيها ومنها كلّ شيء، حتى سُميت بالمدينة المنورة وجعلها مدينة للحب والمؤاخاة، والإيثار على الذات، ومنارة للعلم والخير، ومثالا يحتذى به في تأمين العيش الكريم لكل من فيها، ولو كانوا يعتنقون غير دينه من الديانات.

هذه فقط نبذات من هجرة سيد السادات عليه أفضل الصلوات والتسليمات، ولعمري لو فقهناها وعملنا بها، لكانت خيرا لنا من عظيم القواعد والأنظمة والكتابات، ولأوصلتنا الى بر الأمان في الدنيا، وفي الآخرة لجنّة عرضها الأرض والسماوات. فهل من معتبر ومتعظ مما فات لكي نخرج من هذه الأزمات، ونعيش معاً في تلك المعاني الخالدات؟

* المفتش العام المساعد للأوقاف الإسلامية في لبنان