بهاء ​وادي النصارى​ مشلوح في ذاكرة تفجّر منها الحنين إلى بكارة الطفولة بين أقبية وحجارة ناطقة بهويتنا وذاتنا المشرقيّة. هو وادي النضارة، وقد سمّاه هكذا الرئيس المصريّ السابق جمال عبد الناصر خلال الوحدة بين سوريا ومصر، وما كانت التسمية تعمية عن جذور نابضة حملها الوادي في امتداده نحو لبنان، على تخوم عكار، وهو بالمعنى الأبرشيّ جزء كبير من أبرشيّة عكار الأرثوذكسيّة والتي تضمّ إليها معه صافيتا وطرطوس، بل جاءت التسمية تعبيرًا عن جمال مديد متنوّع، تتمتمه الروابي والسهول، وتبلغ ذورتها مع قلعة الحصن ودير القديس جاورجيوس الحميراء البطريركي في قرية المشتاية.

الحجّ إلى الوادي يأخذك إلى كتاب قديم للكاتب المقدسيّ الأصل نبيل خوري بعنوان حارة النصارى. لا توحي التسميات بانغلاق طائفيّ، وحين ألّف نبيل خوري كتابه رأى بالنصارى كصفة مدى تكوينيّ ملامس مع كلّ آخر، متناضح مع فكره، حارة النصارى في القدس تشبه كثيرًا أحياء مرموزة إلى الصفة في طرابلس في حمص ودمشق. وكأنّ كلّ ذلك يتراكم ليقول بالمسيح المتحرّك حتى في ثقافة الأحياء بلا انزواء لكون المسيح بحقيقته المشرقيّة نسيج ذاتنا وقد جئنا في الأصل من بهائه ليس بالتسمية بل بالحقيقة الكيانيّة الضاجّة فينا والصارخة في الوجود.

ما يلفت في هذا الوادي العابق بشذى تاريخ كبير ومؤسّس على مستوى سوريا ولبنان، أنّ أهله شاهدون لحق غرس فيهم في البدء ولا يزال متين الانغراس. في أساسه إنه وادي العلماء والشعراء والأطباء والروائيين الكبار، لقد كتب التاريخ بهم فسطعوا وأغنوا، من الدكتور الياس عبيد وقد كان طبيبًا وشاعرًا وسياسيًّا ونائبًا مؤسّسا للكتلة الوطنيّة إلى جانب فارس الخوري وشكري القوتلي وآخرين، إلى الروائيّ في المهجر الأميركيّ حليم بركات، مرورًا بالدكتور فاروق عبيد وقد كان عميدًا للجالية العربيّة في ديترويت ورئيس قسم الجراحة العامة في مستشفى هنري فورد في ديترويت، والدكتور كمال رفقا المفكر والفيلسوف والكاتب المسرحي شكيب خوري، والكاتب السياسيّ رفيق خوري. ليس الهمّ في تلك العجالة التوقف أمام الأسماء اللامعة، بل همّها الارتشاف من النور، والتاكيد على انسكابه وانفجاره، فلولا هذا النور لكانت العتمات سحقت الوادي.

تجليات مسيحيي الوادي الحقيقيّة انكشفت في لحظات الشدّة التي مرّت بها سوريا خلال الحرب فيها وعليها. من تلك التجليّات الباهرة الحفاظ على هويّة هذا المدى ليس في الإطار المذهبيّ-الطائفيّ، بل الوجوديّ الخلاق المتلاقي مع معظم المكونات في سوريا والمشرق. لم يتزعزعوا البتة أو يرتجفوا أو يخافوا من احتلال التكفيريين قلعة الحصن في وسطه، بل واجهوا وقاوموا وأعطوا أنفسهم أنموذجًا في الحفاظ على الذات الشاهدة لإيمانها وحضورها. وإذا ساغت المقارنة بعض الشيء بين الواقعين اللبنانيّ والسوريّ، فيجدر الاعتراف بأنّ وادي النصّارى وإن بدا المكان الذي لجأ إليه مسيحيو حمص وحلب خلال الأحداث، لكن ليس واردًا لمسيحيي المدن وبخاصّة مسيحيي حمص أن ينسلخوا عن مدينتهم، وإن وجدوا في الوادي ملجأ وملاذًّا لهم، تسمعهم يقولون: لن نترك بيوتنا وأحياءنا مهما كلّف الأمر".

كانت الأيّام عصيبة على أهل الوادي، لقد قدّم وحده حوالي الثمانين شخصًا جزءًا كبيرًا منهم قتلوا نتيجة الغدر والتعدّي. مرّوا بتجارب الخوف والقلق، لكنّهم لم يرزحوا أو يستسلموا. وعندما يسألون عن تلك المراحل يجيبون بوضوح تام: "كان همّنا أن نبقى لا أن نهجّر، همنا أن تبقى أجراس كنائسنا وبخاصّة أجراس دير مار جرجس الحميراء تقرع، ونستمر مع عائلاتنا في الحياة والعطاء والاستثمار. هذا واضح تمامًا بوجود فنادق أصحابها من أهل الوادي، من المشتاية إلى مرمريتا إلى عين العجوز... واضح من خلال المقاهي والمؤسسات والمطاعم. واضح أيضًا من الحركة التجارية في القرى المذكورة، وواضح بدوره بوجود مشفى الحصن البطريركيّ وجامعة الحواش وجامعة الوادي... ظلّ الناس يعملون ويستثمرون بإيمان، وما قبلوا التهجير والانسلاخ. همّ البقاء أقوى بكثير من همّ الهجرة، هذا عينًا أظهره شباب الحواش ومرمريتا في لحظات القتال ومقاومة المسلحين الذين ربضوا في قلعة الحصن، إلى جانب الجيش. ومن شاء بيع منزل أو عقار فالشرط عندهم أن لا يأتي الغرباء ويشتروا، ليس لسبب طائفيّ بل لسبب واضح بأنّ الهويات الطائفيّة تصبّ وتتجمع في الهوية السوريّة المؤلفة من الحضور المسيحيّ-الإسلاميّ المشترك.

وفي المحصّلة، أثبت مسيحيو وادي النصارى وسوريا، بأنّهم أمتن. فعلى سبيل المثال لا الحصر، إنّ كل مسيحيّ تهجّر من قريته، كمسيحيي ربلة على سبيل المثال لا الحصر، عاد إلى قريته ورمّم منزله ورفض تاليًا الهجرة عنها. مسيحيو سوق الحميدية في حمص شبيهون كذلك لمسيحيي ربلة ووادي النصارى ومعلولا وصيدنايا، أثبتوا أنهم أهل الأرض لا سكّانها فقط، أثبتوا أنهم أبناؤها وليسوا عابري سبيل عليها. قوة الصمود بأنّ يؤمن الناس بأنهم أبناء تلك الأرض وأهلها، أنهم ملحها ونورها، على عكس ما يرى في لبنان، حيث المسيحيون في بعض من قراه، وبخاصّة في عاليه وبعبدا وبعض من المدن لا يقيمون وزنًا لموجوديتهم وشهادتهم، يبيعون رزقهم ويرحلون وكأنّ تلك الأرض ليست أرضهم، لا هم أهلها ولا أبناؤها، وهذا ما يجرح الكيان البشريّ، في كل مقاربة ومقارنة.

في السابق كان مسيحيو سوريا بل المسيحيون العرب يستنجدون بمسيحيي لبنان، لكونهم صمّام أمان وجودهم في الشرق ومصدر لبقائهم فيه. لكن بعد الأحداث التي مرت بها سوريا، فإنّ مسيحييها باتوا المثال الذي يحتذى بالحضور وتحقيق بل تجسيد معنى البقاء في مستلزماته الوجوديّة والإنسانيّة.

كانت الأيام عصيبة، لكن مسيحيي وادي النصارى عصيّون عليها. وعلى الرغم من السنوات الأخيرة العجاف، لا تزال الوجوه باسمة تشّع بالرجاء، وتنضح بالكرم والجود... وتنطلق يوم الأحد للقداس في كنيسة دير القديس جاورجيوس الحميراء، فترى الحشد أمامك مصليًّا ومتضرّعًا. تدخل مع بعضهم إلى صالون الدير الأثريّ بعد القداس، ترتشف قهوة الصباح، وينساب الحديث عن تاريخ الدير ومعنى حضوره بالعمق التاريخيّ والحاليّ كمحجّة يفيض من أرجائها النور، وقبل المغاردة يقف محام كبير من حمص قائلاً نحن على استعداد للبقاء، لكنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة مقصّرة مع شعبها من ناحية احتضان الناس ومساعدتهم، واحتمال المشقّات. شنّع علينا فاحتملنا، هجرنا صبرنا، حملنا إيماننا فرجونا، قتل أهلنا وأبناؤنا فتعالينا على الجراح، ولكنّ الكنيسة لا تزال غائبة غير فاعلة. لم تقف عند مأساتنا، وتبلسم جراحنا بما فيه الكفاية. لا نطلب كساءً أو طعامًا، بل نطلب تفاعلاً وانسجامًا، نطلب أن تقوم الكنيسة بدور الحاضن المعنويّ والماديّ، حتى نبقى إلى المنتهى.

قال الرجل كلمته ومضى ومضينا على إيقاع أصوات الطائرات الروسيّة ومروحياتها التي تقصف الإرهابيين ما بين حمص وحماه وحلب... تعود إلى لبنان ويبقى وادي النصارى مدى للرجاء الكبير.