على وقع الهجمات والتهديدات الإرهابية التي تجتاح العالم، تعيش منطقة الشرق الأوسط حالة من الفوضى والضبابية، التي تمنع قراءة ما يحصل بشكل واقعي، في وقت تحدد فيه الدول الكبرى مصالحها على ضوء النتائج العملية على أرض الواقع، والتي تقوم بشكل رئيسي على ركائز الميدان العسكري، الذي بدوره يرسم وفق سيناريوهات محددة سلفاً، تتضارب فيها المصالح في الظاهر لكنها تلتقي في النتيجة النهائية.

الاسبوع المنصرم، قد يكون من أهم الفترات الزمنية في تاريخ المنطقة الحديث، ومن المتوقع أن يقوم النظام الإقليمي الجديد بناء عليه، بعد أن بات من المسلم به كسر الأحادية القطبية على المستوى الدولي، مع عودة ​روسيا​ إلى المسرح من خلال البوابة السورية، وبالتالي ينبغي التوقف عند أهم الأحداث التي حصلت، من أجل محاولة فهم ما يجري عملياً بعيداً عن المؤثرات الجانبية التي يكون الهدف منها دائماً حرف الأنظار عن الوقائع الفعلية.

بعد العملية الإرهابية التي استهدفت الطائرة الروسية في شرم الشيخ، والتي أعلن تنظيم "داعش" الإرهابي مسؤوليته عنها، ضرب التنظيم نفسه الساحتين اللبنانية والفرنسية، في وقت كان فيه ​الجيش السوري​ يحقق تقدماً نوعياً في المعارك في ريف حلب، بالتزامن مع إنعقاد اللقاء الثاني من ​مؤتمر فيينا​، المخصص لبحث الأزمة السورية القائمة منذ العام 2011، ولكن بعيداً عن وسائل الإعلام كانت الولايات المتحدة الأميركية، عبر القوات الكردية، تعمل على تدعيم ركائز أول كيان جديد في المنطقة، من خلال المعارك التي يخوضها ​الأكراد​ على جانبي الحدود السورية والعراقية.

إنطلاقاً من ذلك، تعتبر مصادر مراقبة، عبر "النشرة"، أن لـ"غزوة باريس" تداعيات على مستويين، الأول على الصعيد الأوروبي من خلال تقدم أحزاب اليمين المتطرف في إستطلاعات الرأي، لتتصدر لاحقاً المشهد السياسي في القارة العجوز، والثاني على صعيد الشرق الأوسط حيث ستكون بمثابة "المغناطيس" الذي يجذب كافة الدول الكبرى إليه، على قاعدة "محاربة الإرهاب في عقر داره قبل أن يصل إلى عقر دارنا"، وتلفت إلى أن المواقف التي صدرت في الأيام الأخيرة تؤكد على هذا التوجه، وهي ترجمت عملياً من خلال مسارعة وزارة الدفاع الفرنسية إلى الإعلان عن إستهداف طائراتها الحربية مراكز في معقل "داعش" في الرقة.

إذا في الصورة الدولية، من وجهة نظر المصادر نفسها، ستقود الهجمات الإرهابية إلى مزيد من التدويل والتدخل في مسرح العمليات العسكرية في المنطقة، وهو أمر كان قد بدأ مع تشكيل التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، وتفاعل مع دخول روسيا على خط الحرب على نحو كبير، ومن المرجح أن يتعاظم في الفترة المقبلة أمام الترويج لخطر "داعش" وأخوته على مستوى العالم، لكن أحداً لن يجيب عن كيفية نجاح التنظيم الإرهابي في تنفيذ عملية ضخمة في قلب فرنسا، التي من المفترض أنها تأخذ إجراءات أمنية مشددة بعد الإعتداء على صحيفة "شارلي إيبدو"، ولا عن الأسباب التي دفعت الحكومة التركية إلى تسهيل إنتقال أعداد ضخمة من اللاجئين إلى أوروبا وكذلك إستقبال الأخيرة لهم، بالرغم من التحذيرات المتعددة التي تحدثت عن إحتمال إنتقال عناصر متطرفة بالطريقة نفسها.

على الصعيد الإقليمي، لا ينبغي التعويل كثيراً على البيان الصادر عن مؤتمر فيينا الثاني، فهو لم يضع إلا خارطة طريق يبدو من المستحيل تطبيقها، بسبب مواقف بعض دول المنطقة المعروفة مسبقاً، والتي عبّر عنها بصورة واضحة وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، من خلال تأكيده بأن بلاده ستدعم أي عملية سياسية تؤدي إلى رحيل الرئيس السوري ​بشار الأسد​، وإلا فهي ستستمر في دعم الجماعات المسلحة التي تحارب على أرض المعركة، في حين لا يزال الصراع بين الرياض وطهران يتصاعد يوماً بعد آخر، ومن غير المرجح أن ينتهي في الأشهر القليلة المقبلة، بالرغم من الإنفراجات التي حصلت على الساحة اللبنانية، لأن من الواضح أن المطلوب عدم إخماد النيران المشتعلة، بغرض الإستفادة منها على المستوى السياسي.

بناء على ذلك، تعتبر المصادر المراقبة أن العودة إلى الميدان العسكري تصبح أمراً ضرورياً، وتدعو إلى التركيز على العناوين التي تخاض من خلالها المعارك في سوريا والعراق، وتشير إلى أن ما يطبق في الأخير هو أساس الصورة التي ستكون عليها المنطقة في المرحلة المقبلة، خصوصاً أن اللاعب الأول، أي الولايات المتحدة، حدد مسبقاً الخطوط العريضة عبر الحديث المتكرر عن بناء دولة فيدرالية تقوم على الكيانات المذهبية والعرقية.

في هذا السياق، تشدد هذه المصادر على ضرورة التنبه إلى سير المعارك، في الآونة الأخيرة، وتلفت إلى أن الأهم هو التقدم الذي يحرزه الجيش السوري، مدعوماً بالطائرات الروسية، على خط إعادة السيطرة على المدن الرئيسية وربطها ببعضها البعض، بالإضافة إلى ذلك الذي تحرزه القوات الكردية المختلفة، "​البشمركة​" و"حماية الشعب الكردي"، مدعومة من الطائرات الأميركية على الحدود السورية العراقية المشتركة، تحت عنوان محاربة "داعش".

وتشير المصادر نفسها إلى أن قوات "البشمركة" تمكنت سريعاً من السيطرة على ​سنجار​، في حين نجحت قوات "حماية الشعب" بالسيطرة على الهول، في سياق السعي إلى العمل على إضعاف خطوط الإمداد وقطع أواصر بين الموصل والرقة، بالإضافة إلى الربط بين المناطق الكردية في سوريا والعراق، لكن بعد سنجار والهول تطرح الأسئلة حول إمكانية ذهاب القوتين إلى مواجهة "داعش" في أماكن أخرى، خصوصاً في البعاج وخرج والشدادي، مع العلم أن المناطق الثالثة ليست ذات أغلبية كردية بل غربية وتركمانية، وهي تعتبر من معاقل التنظيم الإرهابي.

بالإضافة إلى ما تقدم، يتم التأكيد، خصوصاً من الجانب الأميركي، على أهمية تولي سكان كل منطقة يتم تحريرها إدارتها على المستوى الأمني والخدماتي، ما يعني تحضيرها إلى أن تكون مقاطعات أو ولايات مستقلة ضمن نظام فيدرالي أو شكل آخر من الحكم، وهو ما ظهر جلياً عبر تقديم الدعم للعشائر العربية والقوات الكردية، من دون المرور بالحكومة العراقية المركزية، الأمر الذي يتكرر في سوريا من خلال تشكيل ما يسمى "قوات سوريا الديمقراطية" في الوقت الراهن، وإمكانية خلق كيانات عسكرية أخرى لاحقاً تكون بمثابة "صحوات".

وفي حين تشدد المصادر المراقبة على أهمية كسر الحدود، الذي قام به عناصر "داعش"، توضح أن الورقة نفسها سوف يتم إستخدامها خارج الحدود السورية العراقية، وتشير إلى ما يجري في اليمن وليبيا ومصر، وتعتبر أن المخطط قد يمتد إلى قلب الخليج العربي، لا سيما أن العمليات الإرهابية التي حصلت فيها كانت تحمل طابعاً تقسيمياً جديداً، وتذكر بأن أحد التفجيرات في السعودية تم تبينها من قبل "ولاية البحرين" في "داعش".

في المحصلة، لا تزال المنطقة في قلب المخاض الكبير، ومن غير المتوقع أن تخرج منه في وقت قريب، في ظل غياب المشاريع الوحدوية مقابل تنامي النزاعات الإنفصالية ذات الطابع المذهبي والعرقي، ليكون السؤال عما إذا كانت التنظيمات الإرهابية تنفذ عملياتها عن عبث هو الأساس، بالتزامن مع علامات إستفهام يجب أن توضع حول التسهيلات التي تقدم لها على المستويات المالية والعسكرية والأمنية.