- بقيت حكاية الانتخابات التركية، التي كان فوز حزب العدالة والتنمية بالأغلبية الكاسحة فيها لتمكينه من تشكيل حكومة مريحة، لغزا للمقربين منه والمريدين له، ولم تستطع واحدة من اصل خمسين شركة استطلاع راي محلية وعالمية الاقتراب من نتائجها في استفتاء الناخبين،

واضطرت منظمة الامن والتعاون الاوروبية الى اعتبارها فضيحة للديمقراطية لما رافقها من تجاوزات بحضور المال السعودي، واسكات المعارضين واعتقال عشرات الصحافيين ومقدمي البرامج التلفزيونية ذات الجماهيرية العالية واغلاق عشرات المواقع الالكترونية وستة صحف واربعة قنوات تلفزيونية، وما رافقها من كلام عن تدخل اميركي لدى جماعة فتح الله غولن المنشق عن حزب الرئيس التركي رجب اردوغان، الذي منح مؤيدوه اصواتهم في حزيران لكل من حزب الحركة القومية وحزب الشعوب الديمقراطي ليمنحوها مرة اخرى لحزب أردوغان.‏

وحدوث كل ذلك دون تعليق اميركي مباشر او غير مباشر على هذه التجاوزات ومباركتها النتيجة المفاجئة، كل ذلك وجد تفسيره بالدور الذي لعبته تركيا اردوغان في الاشتباك مع روسيا، بعدما كان المستجد الوحيد الذي غير الاتجاه في التعامل الاميركي مع الانتخابات التركية هو الاندفاعة الروسية العسكرية في سورية قبل شهر من الانتخابات، والعودة الاميركية الى خيار اردوغان بعدما بدا انه تجاوز العمر الافتراضي لوجود حزبه في الحكم .‏

- الطلقة الاخيرة في الحرب الاميركية في سورية كانت من نصيب اردوغان وقد اعيد انتاجه انتخابيا ليتولى الضغط على الزناد، فالحركة الروسية التي فرضت على الارض ايقاعا متعدد الاتجاهات امسكت زمام المبادرة وقالت الامر لي، والصيغة السياسية التي فرضتها موسكو في فيينا والتي تربط مستقبل الرئاسة السورية بصندوق الاقتراع، وتحدد طبيعة الدولة السورية الجديدة، بالدولة الموحدة والعلمانية، اي اعلان نعي الاوهام والاحلام الاميركية والسعودية والتركية بصيغة فدرالية او اعادة تكوين طائفي للدولة، و ترسم للارهاب معادلة لا مكان فيها لتحييد كل منوعات تنظيم القاعدة التي تنام في حضن كل من تركيا والسعودية وقطر والتي تتقدمها جبهة النصرة الفرع الرسمي لتنظيم القاعدة، وتعتاش على المال القطري والسعودي وتانس بالدعم العسكري للمخابرات التركية، وتجاهر اسرائيل بالتعاون معها، وبعد كل الوقائع التي فرضتها روسيا وصار التعامل معها كامر واقع، الطريق الوحيد للحفاظ على قدر ولو شكلي من الشراكة في الازمة السورية كانت واشنطن تحتاج لطرف منتهي الصلاحية كاردوغان تستخدمه كما تستخدم المحكومين بالاعدام في العمليات الخاصة لمخابراتها، وتفاوضهم كما تفاوض معتقلي غوانتنامو الذين تعرض عليهم الافراج لقاء انخراطهم بمهام قذرة كالقتال في ليبيا وسورية، لكن جنون عظمة اردوغان لم يجعلها تحتاج لهذه الاشتراطات فهو جاهز ومذخر للطلقة الاخيرة موهوما بانه السلطان الذي لا يرد له طلب، فكانت طلقته الاخيرة .‏

- توقيت الطلقة التركية جاء على اعقاب تطورين هامين هما، تقدم الجيش السوري وحلفائه بغطاء جوي روسي الى محاذاة الحدود التركية من جهة جبل التركمان بعد دخوله الى جبل الزاوية ومواصلته حربا بلا هوادة ضد كل من ربتهم واشنطن على معلفها من منتجات القاعدة والبستهم ثوب المعارضة المسلحة واوكلت الى تركيا والسعودية رعايتهم، والتطور الثاني كان القمة التاريخية التي جمعت الزعيمين الروسي فلاديمير بوتين والايراني السيد علي الخامنئي، وما نتج عنها من تفاهمات تتصل برسم خريطة المنطقة الجديدة انطلاقا من سورية، والضرب بعرض الحائط بالممنوعات الاميركية المتصلة خصوصا بدور حزب الله وسلاحه وحجم قدراته ومكانته في لعبة المنطقة المقبلة، والرسالة الاميركية عبر الطلقة التركية واضحة وهي تقول لروسيا توقفوا لنتفاهم على الاحجام والادوار والا، ولان واشنطن ليست قادرة ولا جاهزة لخوض المواجهة مباشرة وهي التي كانت اساطيلها في البحر المتوسط تهدد وتتوعد وتحدد موعد الضربة لسورية بذريعة قابلة للتسويق عنوانها الاتهام باستخدام السلاح الكيميائي، وعادت بلا حربها عندما اسقطت روسيا لها اول صاروخي اختبار، واعلنت تشغيل محطات الانذار المبكر في سيبيريا ضد الصواريخ الباليستية وربطها بالدفاعات السورية التي تسلمت صواريخ الياخونت المتطورة ضد السفن، ومنطقي ان اميركا التي تهيبت المواجهة وهي اتية اليها لن تعود لها وقد صارت روسيا في جهوزيتها الكاملة، وبالمقابل روسيا التي لم تهب المواجهة وبادرت للتعبير عن عزيمتها واميركا في ذروة الجهوزية، لن تتهيبها وهي في قلب سورية، فصار المنطقي توقع ان تستخدم واشنطن من يطلق بالانابة عنها هذه الطلقة وتجعله شريكا في الارباح ان حقق فوزا، وتدعه يحصد الخسائر ان وقع في الحفرة .‏

- اطلق أردوغان طلقته وهو يعض اصابعه ندما ويقول لو كنت اعلم ان الطائرة روسية لما فعلت، بعد يومين من العنتريات غابت خلالها كل اللغة التي تفتح ابواب التراجع، وروسيا تلقت بكل وضوح الرسالة وردت عليها بتصعيد الحرب حتى الحدود التركية، ووضع ما اسماه الاميركيون و الاتراك بشريط حدودي يمتد من البحر الى جرابلس في ريف حلب، تحت النار بينما يتقدم الجيش السوري لاكتساحه وتنظيفه من كل وجود للجماعات التابعة للاميركيين والاتراك والسعوديين من مخلفات القاعدة، وتعلن روسيا نشر منظومة استراتيجية لصواريخ اس 400 التي تعادل اعلان حظر جوي فوق الاجواء السورية كلها، وها هي روسيا تمضي في تدفيع تركيا ثمن فعلتها وفق روزنامة حرب ناعمة اقتصادية وامنية بمحاور متعددة حتى ينتهي امر تنظيف الخط الحدودي ليتفرغ الروس للانتقام بهدوء .‏

- سقط مشروع الاخونة الذي قادته تركيا في المنطقة، وتحقق الاميركيون من ذلك فوقعوا على وثيقة دفن المشروع في مصر وتونس وسورية واليمن، وكانوا على وشك توقيع مشابه في تركيا لولا الحاجة التكتيكية لهذه الطلقة الاخيرة التي كان يفترض باردوغان ان يتولاها، وها هو يفعل معلنا نهاية فاشلة للمهمة،ولكن معها نهاية حقبته الممددة، التي بدا العد التنازلي لها في ايامها الاولى، مع نهاية مهمته الاخيرة .‏